Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جنوب السودان بين الأسطورة والسلطة

احتضنت داخل كيانها مرارات الحرب الأهلية وآثارها

 

مقاتلون يحضرون برنامج مصالحة تشرف عليه بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان (أ.ف.ب)

على الرغم من أن دولة جنوب السودان وصلت إلى دولة مستقلة عام 2011، إلا أنها احتضنت داخل كيانها مرارات وآثار الحرب الأهلية التي دارت بين جنوب السودان وشماله على مدى نصف قرن. ولما كانت سمة الصراع هي التعقيد في حالة الشمال والجنوب، فقد انتقل بنفس تعقيداته إلى الجنوب الذي يعاني أصلاً من سيادة هويات قبلية على أخرى.

في الأسبوع الماضي أعلنت دولة جنوب السودان التشكيل الوزاري لحكومة الوحدة الوطنية، وضمت 34 وزيراً وعشرة نواب وزراء، حصل منها فصيل رياك مشار المنافس اللدود للرئيس سلفاكير ميارديت على تسع وزارات من بينها وزارة الدفاع لزوجته أنجلينا تينج. ولأن القبيلة هي العنصر الأهم في دوافع الصراعات والانشقاقات السياسية، فإن قبيلة "النوير" التي ينتمي إليها مشار وزوجته، تؤمن بنبؤة حول قيادته وانتصارات حققها لقبيلته، ما يعكس مدى تحكم الأسطورة في تسيير دفة السياسة في دولة جنوب السودان.

عصا الحرية

 كان نوندينغ أحد سلاطين "النوير" ويُعرف بـ"الكجور" أي العرَّاف (والكجور بحسب معتقدهم هو كائن سماوي تقمصته الأرواح وتعلقت به وأكسبته مقدرات خارقة)، رجلاً له بطولات واستطاع أن يحقق انتصارات لقبيلته ولبقية القبائل ويذكرها أبناء "النوير" بالتوارث. كما يُذكر أنه كانت لديه أيام الحكم الاستعماري الإنجليزي في السودان، عصا يسمونها "دانغ"  باللهجة المحلية، ويعتقدون أن من يحملها يستطيع أن يحقق الكثير مثل هطول الأمطار وهبوب الرياح وغياب الشمس والفيضان، وغيرها من الانتصارات العسكرية على خصومهم وسيادة "النوير" على جنوب السودان ككل. عُرف نوندينغ بحسب روايات "النوير"، بمساعيه وجهوده في صنع السلام، وقد نجح في وقف الحملات العدوانية والمذابح بين قبيلة "النوير" وجيرانهم من قبائل "الدينكا" و"المورلي" و"الشلك" و"البورون" و"الأنواك" حتى وفاته عام 1906. ذكر الكجور نوندينغ أن العصا التي أخذها الإنجليز ستعود إلى حفيده وسيحقق بها انتصارات. كما يعتقد "النوير" أن وصف الكجور لمن يملكها انطبقت على رياك مشار، ووصلت العصا إلى "النوير" بالتواتر بالأشعار والأغاني وبالكثير مما يعتقدون أنه إرث من تاريخهم. هذا الاعتقاد في النبوءات اعتقاد جازم عام لدى "النوير"، لا فرق بين المثقفين والمتعلمين وعامة الشعب، وهذه القضية تحكم معتقداتهم وهي سبب الصراعات والحروب التي دخل فيها "النوير".

كانت الطائرات البريطانية الحربية تشن غارات جوية بهدف السيطرة التامة على السودان، وكان البريطانيون قد وضعوا جنوب السودان ضمن المناطق المقفولة بسبب الظروف الطبيعية وكثرة الغابات والمستنقعات، ولم تكن هناك طرق تؤدي إلى الوصول إلى كل أنحاء الجنوب. في إحدى المرات التي كانت هذه الطائرات تشن غارات على القرويين وتقوم بقتلهم وتحرق مزارعهم، قام نوندينغ بالتلويح بعصاه ومن ثم سقطت الطائرة الحربية.

كانت هذه من أكبر الانتصارات التي حققها "النوير" بموجب ما يعتقدونه حول هذه العصا التي أُطلق عليها "عصا الحرية"، وهو ما تحقق ضد الإنجليز في حروبات شهيرة وعملوا في الجيش الانجليزي تقتيلاً واستعملوا أيادي بعض الجنود المقتولين لضرب النُقَّارة (آلة إيقاعية تُصنع من جلد البقر)،  وقامت حرب ضروس حاول الإنجليز أن ينتصروا عليهم وأن يمتلكوا هذه العصا، وتحقق هذا للإنجليز ونُقلت العصا إلى بريطانيا.

ظلَّت العصا محفوظة في أحد متاحف بريطانيا وهي تمثل قيمة روحية وتراثية كبيرة لدى أبناء الجنوب بصفة عامة وأبناء قبيلة "النوير" بصفة خاصة. وقد تمكن مشار من استعادتها عام 2010 من بريطانيا وسط استقبالات شعبية أُقيمت في المطار، وأقيمت لها طقوس روحانية استمرت أياماً، وأُشعلت لها النيران. عاد مشار بالعصا إلى الجنوب ووضعها أمانة عند الرئيس سلفاكير، وهدفه من ذلك أن يبعث الاطمئنان في نفس سلفاكير لأن الأسطورة تثير توتره، بينما يستخدمها مشار في تحقيق طموحاته السياسية ويخفف من وطأة الصراعات، وهو يعتقد أن النبوءة لا تخص سلفاكير وإنما  تخص "النوير" وتخصه هو شخصياً.

نبوءة الكجور

ويستند سلفاكير ومشار على قوة إثنية مؤثرة وكبيرة في جيش جنوب السودان، فمشار ينتمي لقبيلة "النوير" التي تُعدُّ ثاني قبائل جنوب السودان من حيث عدد السكان، وهي من القبائل المحاربة شديدة المراس، بينما ينتمي الرئيس سلفاكير لقبيلة "الدينكا" وهي كبرى قبائل جنوب السودان، بل القبائل الأفريقية من حيث عدد السكان، ولعبت دوراً كبيراً في الحرب الأهلية في السودان. وبنفس القدر يعتمد الرجلان حال كل القبائل النيلية في جنوب السودان، على الأساطير المتعلقة بالديانات الروحانية.

أما نبوءة السلطان نوندينغ المتعلقة بالحرب بين دولة شمال السودن والجنوب عندما كان إقليماً تابعاً لها، أنها ستخف وتيرتها عندما يأتي سلام صغير، ولكنها لن تنتهي إلا بسلام كبير يحين عندما يكتمل مبنى في الخرطوم شكله يشبه بيض النعام "فندق كورنثيا"، وأن القائد الجنوبي الذي سيأتي بالسلام سيمكث في الحكم أياماً بقدر سنوات حربه في الغابة، وسوف يستلم منه الحكم أحد أقربائه وسيحكم فترة من الزمن سيعقبه أحد أبناء "النوير". وسوف يترك الحكم لاحقاً لأحد أبناء قبيلة "الشلك" كثير التقلبات السياسية. وسيحاول الشمال مرة أخرى الحرب مع الجنوب وسيفشل، وأنه لن يكون هنالك انفصال وستنتهي الحرب الكبيرة إلى الأبد ولكن ستستمر حروب صغيرة.

تفسير الأحداث

هذه النبوءة عدَّها الساسة الجنوبيون تفسيراً للأحداث السياسية ومؤشرات حول السلوك السياسي من جهة الممارسة اليومية، حتى باتت تشكل جزءاً من العقل الجمعي للساسة في حكومة الجنوب. وإضافة إلى طبيعة المجتمع الجنوبي القبلية قامت "الحركة الشعبية لتحرير السودان" في ثمانينيات القرن الماضي بزعامة جون قرنق في مايو (أيار) 1983، بالاعتماد على القبيلة كمكوّن أساسي مثّلها زعيم الحركة نفسه الذي ينتمي إلى قبيلة "الدينكا". انشقت بعض المجموعات عن الحركة وجيشها، مثل الانشقاق الأكبر لمجموعة الناصر بقيادة مشار من قبيلة "النوير" ولام أكول من قبيلة "الشلك" عام 1991. وهو الانشقاق الذي ترك شروخاً في العلاقة بين مجموعة العقيد جون قرنق ومجموعة "رياك مشار- لام أكول".

أتت محاولة الانقلاب التي قادها نائب الرئيس الجنوب سوداني المقال رياك مشار، بعد مسيرة شد وجذب قادها الرجل داخل "الحركة الشعبية" التي انضم إليها منذ بداية تكوينها. فبعد إعلان الناصر أسس مشار الحركة الموحدة عام 1992، ثم حركة "استقلال جنوب السودان" عام 1995، وقاد عملية تفاوض مع حكومة الخرطوم توصلت إلى اتفاقية الخرطوم للسلام 1997، تم تعيينه بموجبها مساعداً لرئيس الجمهورية ورئيس مجلس تنسيق ولايات الجنوب. عاد مشار بعد ذلك إلى "الحركة الشعبية لتحرير السودان" عام 2000، مستقيلاً من مناصبه الحكومية بعد اتهامه الخرطوم بإرسال قوات لمحاربة مقاتليه في الجنوب.

أما أبرز الشخصيات الأخرى المتورطة في المحاولة الانقلابية هو باقان آموم الأمين العام للحزب الحاكم الموقوف. عاد باقان أموم إلى الخرطوم بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل بين "الحركة الشعبية" وحكومة السودان عام 2005. وبعد مقتل جون قرنق في يوليو (تموز) من العام نفسه، أصبح أموم الأمين العام لـ "الحركة الشعبية". عُيّن في منصب وزير دولة في مجلس الوزراء، ولكن أُقيل عام 2008 لعدم رضا الخرطوم عنه.

حافظ باقان أموم وهو من قبيلة "الشلك"، على مكانته كالرجل الثاني بعد زعيم ومؤسس "الحركة الشعبية" الراحل جون قرنق، وهو من ضمن مجموعة "أولاد قرنق"، وهي المجموعة تستمسك بمبادئ زعيمها الراحل في وجه مخالفيه في الحركة الشعبية. واستمر ذلك إلى أن عمل الرئيس سلفاكير على استبعاده ومشار، باعتبارهما أكبر منافسيه ولنيتهما الترشح للدخول في الانتخابات في 2015، ما اعتبراه تمهيداً لعهد ديكتاتوري أدى إلى انقسام حزب "الحركة الشعبية" بناءً على الخلفية العرقية.

اتكاءٌ على الإرث الأسطوري

إضافة للنظام السياسي الهش الذي ورثته دولة جنوب السودان فضلاً عن الاقتصاد الضعيف والتعقيدات الاجتماعية، كانت هناك قابلية كبيرة تحولت بموجبها الخلافات السياسية بين قادة الحزب الحاكم في الدولة إلى صراع قبلي. وتأسست هذه القابلية على أرضية الولاءات العشائرية التي لم يترفع عنها كيان الدولة الحديثة ومؤسسة الحكم المدعومة بهذه الانتماءات والتحالفات القبلية. هناك أيضاً شخصية الرئيس سلفاكير التي تفتقر إلى الكاريزما، وقد اتهمته مجموعة "أولاد قرنق" أنه سبب فقدان قيادة "الحركة الشعبية" روح الزعامة التي كان يتحلى بها زعيم الحركة الراحل جون قرنق.

الآن بعد أن وصل مشار وزوجته أنجلينا تينج إلى هذه المناصب، بعد أسابيع من المفاوضات بين سلفاكير ومشار حول تشكيل حكومة وحدة أعلن عنها في 22 فبراير (شباط) في جوبا. وهذه المرة الثالثة التي يحكم فيها سلفاكير كرئيس ومشار كنائب رئيس منذ استقلال البلاد عام 2011. أما أنجلينا تينج فذات شخصية قوية، مؤهلة مهنياً وقبلياً بمعايير الجنوب، فهي ابنة سلطان وحفيدة سلطان، ومن عائلة نوندينغ متنبئ "النوير" الشهير. وفعلياً كانت هي القائد الميداني لقوات المعارضة (قوات مشار) فقد كانت تقيم مع المقاتلين في معسكراتهم.

ويعتقد الجنوبيون أن نبوءة نوندينغ هي التي أسّست لكل هذه التطورات التي ربما تبقيهم بعيداً من المواجهات، وربما على وقع هذه العصا والنبوءة المصاحبة، أن يتناسى سلفاكير ومشار أي نهاية حتمية لسياسة الإقصاء ضد المنافسين داخل "الحركة الشعبية" أو بينها وبين مكونات المعارضة.

المزيد من العالم العربي