فرضت الوقاية من تفشّي فيروس "كورونا" على الملايين من الأفراد حول العالم أن يقضوا وقتهم الآن داخل المنازل لأيامٍ أو حتى لأسابيع. ومع ذلك، عوض أن تكون الإقامة الجبرية الحديثة مكاناً آمناً، يجب أن تترافق مع تحذيراتٍ صحّية خاصّة بها.
فمع مرور الوقت، سيُضطر معظمنا إلى الالتصاق بهواتفهم الذكية وإلى استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للبقاء على اتّصال. ويمكن أن يؤدّي استخدام الإنترنت بالنسبة إلى الشباب والمتأثّرين والضعفاء والساذجين، إلى إلحاق ضررٍ عقلي وجسدي بهم. فعلى مدى ثلاثة عقود، حوّل الويب حياتنا بطرق إيجابية ووسّع رؤيتنا، لكنه دمّر في المقابل صحّة الأشخاص وعزّز السلوك المقزّز في أوساطهم. وتعاني الشابات على وجه الخصوص نتيجة استهدافهن من جانب متنمّري شبكة الإنترنت، ومن أولئك الذين قد يستغلون مخاوفهن في شأن الجنس ومظهر الجسد.
ويبدي منشئ الشبكة العالمية السير تيم بيرنرز لي بالغ القلق في هذا المجال، فهو نشر للتو رسالةً مفتوحة إلى الحكومات وشركات التكنولوجيا، محذّراً من أن "الإنترنت لا تعمل لصالح النساء والفتيات". وقد تعاونت مؤسّسته الخيرية مع حركة Girl Guides الكشفية على نشر أبحاثٍ تظهر أن أكثر من نصف عدد الفتيات الصغيرات، عانَيْنَ من الإساءة عبر الإنترنت. والأمر الأكثر إثارةً للقلق هو النتيجة التي توصّلت إليها تلك الأبحاث والتي تفيد بأن 87 في المئة من الأفراد يعتقدون بأن سوء الوضع يتفاقم.
واستناداً إلى بيرنرز لي، قد تؤدّي هذه الإساءة على أثير الإنترنت إلى رفض الفتيات الذهاب إلى المدرسة، وقد تتّخذ شكل التنمّر الذي يؤثّر في ثقة النساء بأنفسهن في مكان العمل، ويحدّ من حرية التعبير. وتتعرّض الصحافيات والنساء العاملات في السياسة للهجوم بشكل روتيني جراء التعبير عن آراءٍ قد يرى فيها آخرون تحدّياً لهم. وقد تسبّب موت الفتاة اليافعة مولي راسل البالغة من العمر 14 سنة بموجة من الغضب، عندما تبيّن أنها شاهدت صوراً لإيذاء الذات على "إنستغرام". وبعدما وضعت مولي حدّاً لحياتها، ظلّت صور عن إيذاء النفس والانتحار منشورةً على موقع "إنستغرام"، على الرغم من أنّ الشركة قالت إنها ضدّ هذا التوجّه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتُعِدّ الحكومة البريطانية اليوم لوضع قوانين جديدة تجبر شركات التكنولوجيا العملاقة على مراقبة محتواها بشكل أفضل، تحت رعاية "أوفكوم"، الهيئة الناظمة للاتصالات في المملكة المتحدة. وفي تأكيد للنتائج التي توصّل إليها بيرنرز لي، أشارت هيئة "أوفكوم" إلى أن أربعةً من كلّ خمسة مستخدمين لشبكة الإنترنت في عمر بين 12 سنة و15 سنة، قد تعرّضوا لمحتوى ضار عبر الإنترنت في العام الماضي. وتريد السلطات من أي شركة (مثل "تويتر" و"إنستغرام" و"يوتيوب" و"فيسبوك") تنشر محتوى يكون من إعداد المستخدمين، إزالة "المواد الضارّة" التي تشمل ما يروّج للإرهاب أو الاعتداء الجنسي على الأطفال أو التنمّر على الخط (أونلاين) أو الإيذاء الذاتي أو الانتحار وما إلى ذلك. وسيؤدّي عدم التزام الشركات الكبرى هذه بذلك، إلى فرض غراماتٍ كبيرة عليها قد تصل إلى عقوباتٍ بالسَّجن.
ففي ألمانيا، يُلزم قانونٌ جديد الشركات التي لديها أكثر من مليوني مستخدم، القيام بذلك [حذف المحتوى الضار]، أو مواجهة غراماتٍ كبيرة. وقد وضع الاتحاد الأوروبي تشريعاً جديداً يتيح تغريم الشركات والمؤسسات بنسبة تصل إلى 4 في المئة من حجم مبيعاتها، إذا لم تحذف المواد المسيئة من على الإنترنت، عندما تطلب منها الحكومات ذلك.
في المقابل، قرّرت الحكومة البريطانية معالجة ظاهرة الأخبار المزيّفة من خلال تشكيل فريق من الخبراء لمراقبة الشائعات التي يتم تداولها خلال حال الفزع الراهنة على الصحة العامة. وقد رُويت قصصٌ عن وجود لقاح لمكافحة فيروس "كورونا" (غير صحيحة)، وانتشرت كذلك أكاذيب عن منظّفات الأيدي وجميع أنواع العلاجات الزائفة. وفي فرنسا، زُعِم أن استنشاق الكوكايين يقي من الفيروس. إنّ هذا النوع من الأخبار المزيّفة قد يكون قاتلاً.
وكان مارك زوكربيرغ قد أكّد أنه يريد من الحكومات أن تراقب محتوى وسائل التواصل الاجتماعي بحثاً عن مواد مسيئة، لكن طبعاً هذه مهمّة مستحيلة جراء حجم الأشياء المعنية هو أكبر من أن تُشذّب بشكل واقعي. وعلى الرغم من الأرباح الضخمة التي يحقّقها موقع "فيسبوك" وزملاؤه، فإنهم لا يرغبون في الواقع في إنفاق أموال على جيش من البشر يعمل على غربلة المحتوى. وأقصى ما يصبون إليه هو العمل الفوري على إزالة أي مشاركات أُبلغ عنها على أنها مسيئة.
الآن، سيوكل إلى هيئة "أوفكوم" البريطانية تحديد المواد المسيئة على شبكة الإنترنت والمطالبة بإزالتها، وهي مهمّة غير واقعية من المحتّم لها أن تفشل. ولن يُردع عملياً كثيرون من المستخدمين، وسيواصلون طرح المواد التي تخالف الإرشادات لأنّ حظوظ إفلاتهم من الرصد والضبط كبيرة.
هل يمكن أن يشكّل فيروس "كورونا" فرصةً لمحاولة تقليل اعتمادنا على الإنترنت والدردشة عبر الشبكة؟ ربما يمكننا خفض مستوى العدوان، في غياب بدائل.
فبعدما طفح الكيل من بعض الناشطات النسويات البارزات اللواتي تسابقن في التباهي بأحداث "التوعية" التي حضرنها في "اليوم العالمي للمرأة"، قمتُ بنشر صورة لي وأنا أرسم ظلاً مهدّئاً باللون الأخضر. وقد حظيت بأكثر من 116 ألف مشاهدة، ونالت إعجاب أكثر من ألفي شخص. وولّدت الصورة تعليقاتٍ ممتعة ساعدت في نفي الوقاحة التي أدّت إلى كتم صوت 15 شخصاً هذا الأسبوع (معظمهم من عامة المنتقدين الذين لا يكلّفون نفسهم عناء قراءة ما كتبته، ويكتفون بالإهانات).
وقد سلّطت وفاة كارولين فلاك أخيراً الضوء على الضرر الذي قد تسبّبه وسائل التواصل الاجتماعي للبشر، وتناولت التعليقات رغبتها في أن نكون "لطفاء" على نطاق واسع. لكن بينما ينظّر مجتمعنا في شأن "قلقه" على القضايا التي تؤثر في أقراننا، من داء السرطان إلى تغيّر المناخ، ففي الواقع، يمكننا بسهولة الالتفات أكثر إلى المتنمّرين وأن نقلّص التستر وراء ميزة عدم الكشف عن الهوية التي يوفّرها الهاتف الذكي. إنّ تداعيات هذا البشاعة كانت مروّعة. ويعاني شخص من كلّ ثمانية أشخاص تقلّ أعمارهم عن 19 سنة في إنجلترا، من مشكلة في الصحّة العقلية، وترتفع النسبة إلى نحو فتاة من كلّ أربع فتيات تتفاوت أعمارهن ما بين 17 سنة و19 سنة من اللواتي يقلن إنهن فكّرن إما في إيذاء أنفسهن أو في الانتحار.
ليس هناك أي جدوى من توقّع قيام هذا الجيل بقراءة كتاب أو وقف تشغيل التكنولوجيا، فالهواتف الذكية هي الطريقة التي يديرون بها حياتهم. وحريٌّ بالأهل والأصدقاء أن يكونوا متيقّظين. دعونا نأمل في ألاّ تكون لمدة العزلة القسرية التي سبّبها فيروس "كورونا" السيئ هذا، عواقب غير متوقّعة.
© The Independent