الأرجح أنه مع وصول هذه الكلمات الى القراء، تكون أجزاء من مصانع الصين قد عادت الى العمل، وعاودت نفث كتل غازات التلوث الناجمة عن حرق الوقود الأحفوري (الفحم الحجري، النفط، الغاز...). وعلى الرغم من ضبابية كبيرة تسود المعلومات الوبائية عن ظهور عدوى فيروس "كورونا المستجد" (= "كوفيد 19" CoVid 19) في بؤرته الصينية الأولى (مدينة "يوهان" في مقاطعة "ووبي"، وربما تحديداً سوق السمك والحيوانات فيها)، ثم انتشاره فيها وتوسعه منها إلى أرجاء المقاطعة [ثم العالم]، إلا أنه من الواضح أن المرض ينحسر في تلك البؤرة. وترافق الإعلان الرسمي عن بوادر انحسار الوباء في "يوهان" و"ووبي" مع عودة النشاط التجاري والصناعي فيها.
ربما يتنهد البعض بحسرة! لماذا؟ لأن صور الأقمار الإصطناعية أظهرت أن فترة العزل الصارم لتلك المنطقة التي تعتبر من أبرز البؤر الصناعية والتجارية والاقتصادية في الصين، ترافق مع انحسار تلوث الغلاف الجوي فوقها، بل تبددت أيضاً كتل من الهواء الملوث فوق مناطق واسعة من الصين. وبسرعة، توصل نشطاء في البيئة الى سؤال عن إمكانية تعليق النشاطات البشرية [خصوصاً الصناعة، بما فيها صناعة توليد الطاقة]، بضعة أيام سنوياً، كي يتاح للكرة الأرضية وشعوبها فرصة التخلص من هواء رديء ملوث. وقد تستطيع تلك الأيام المقترحة إعطاء فرصة للطبيعة والبشر في تجديد الهواء النقي وامتصاص كميات من غازات التلوث، سواء عبر الطرق الطبيعية [الغابات مثلاً] أو الآليات الصناعية المتبعة في استخلاص الغازات الكربونية من الهواء وتحويلها مواداً جامدة يمكن التعامل معها والتخلص منها بطرق متنوعة.
أمنية؟ ربما الأهم أنها تفتح أفقاً للتفكير من زاوية اخرى بالوباء العالمي [= جائحة ("بانديميك" Pandemic)، وفق مصطلحات علوم الأوبئة] لفيروس "كوفيد 19"، بمعنى التفكير في بُعدُه البيئي، مع التشديد دوماً على العلاقة بين "مرض" التدهور المستمر الذي تعانيه بيئة الكرة الأرضية، وبين النشاطات البشرية المعاصرة، خصوصاً تلك التي ظهرت وتصاعدت منذ الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر.
ليست العلاقة مبسّطة بين مثلث البيئة والأوبئة والنشاطات الصناعية، لكن من المفيد تذكر الترسيمة شبه الراسخة القائلة بحدوث تعدٍّ متمادٍ على البيئة من قبل البشر، خصوصاً عبر نشاطات الصناعة وما يرافقها من أنماط العمران كالمدن الحديثة وزيادة ديموغرافية متصاعدة في أعداد السكان، وهجرات سكانية واسعة، وتمدد متسارع للعمران الحضري يزيد في تركيز الوجود البشري في المدن، وتآكل التنوّع البيولوجي، وتزايد انقراض الأنواع الحية، واستهلاك مفرط للمصادر الطبيعية وغيرها. ويتعلق أمر الاستهلاك المفرط للموارد الطبيعية باقتصاد مرتكز على الاستهلاك المتوسع مع تركيز أحادي على تصاعد الربحية وتضخيم رأس المال المالي، وتجري تلك الأمور كلها من دون وضع الإنسان والقوى العاملة في مركز التنمية.
وكذك ترافق التعدي المتمادي من قبل نشاطات بشرية منفلتة العدوانية، على البيئة ومكوناتها ومصادرها وأنواعها، مع حدوث اختلالات ضخمة في التوازن بين البشر والبيئة. ويضاف إلى ذلك حدوث اختلالات داخل مكونات البيئة نفسها كتقلص مساحات الغابات، وزيادة التصحر، وتراجع أعداد الحشرات المفيدة للإنسان ودورات الزراعة [مثل: النحل]، وتراجع قدرة الطبيعة على تجديد ذاتها [بما في ذلك الهواء] وإعادة تعبئة مصادرها وغيرها، بل صار البشر يستهلكون حصتهم السنوية من موارد الطبيعة قبل نهاية السنة بشهور.
الإنسان يركب فيروسات الـ"سين بايو"
لا مجال لرسم صورة كاملة للانهيار الواسع في التوازن بين الجنس البشري والبيئة التي لا مجال لاستمراره في العيش من دونها! وفي اللحظة الحاضرة، ثمة أسئلة لا حصر لها عن علاقة ذلك الانهيار البنيوي في النظام البيئي الشامل، مع الأوبئة التي جاء وباء "كوفيد 19" ليعطي مثلاً بارزاً عنها.
قبل التوسع في النقاش، يجب التشديد على أن الصورة غير الواضحة نسبياً لانتشار فيروس "كوفيد 19" ودورات تكاثره وتبدلات تركيبته وتنقلاته بين عوالم الحيوانات والبشر، تجعل الكلام عنه يجري تحت أفق النسبية والراهنية، بل قد تتغيّر وتتبدل مع مايستجد من معطيات.
واستطراداً، في اللحظة الحاضرة، من الواضح أن الكلام عن كون "كوفيد 19" سلاحاً بيولوجياً يندرج غالباً ضمن تفكير يميل الى تفسير الأشياء بـ"المؤامرة"، سواء أكان ذلك بالقول أن "كوفيد 19" سلاح استعمله طرف دولي ما ضد آخر [أميركا ضد الصين]، أو بتبني مقولة أن "كوفيد 19" سلاح بيولوجي انفلت من مختبرات عسكرية للجيش الصيني كانت تُعِدْه سلاحاً في ترسانتها أو غير ذلك. وتوضيحاً، يجدر التشديد على وجود أطراف دولية من بينها أميركا والصين وروسيا، تستطيع تركيب فيروسات كـ"كوفيد 19" أو غيره، خصوصاً مع تقدم تلك الدول في علوم الطب والجينات، بل تحديداً مع المسار المتصاعد لعلم "البيولوجيا التركيبية" Synthetic Biology [اختصاراً بمصطلح "سين بيو" Syn Bio]. ثمة دول يستطيع علماؤها تركيب فيروسات انطلاقاً من مكونات بسيطة، ويستطعيون إعطائها ميزات ومواصفات تجعلها أسلحة بيولوجية. يبقى السؤال عن الأدلة التي تبرهن حدوث ذلك في وباء "كوفيد 19"، وذلك أمر ضروري من أجل حسم ذلك النقاش.
إذا نحيّنا الأسلحة والمؤامرة، يبقى أن فيروس "كوفيد 19" ينتمي إلى عائلة فيروسات قديمة، هي كورونا التي اشتهر بإسمها، وتطور وتغيرت تركيبته داخل نوع [ربما أكثر] من الحيوانات، فصار قادراً على الانتقال إلى البشر. ومن المهم ملاحظة أن ليس كل فيروس في الحيوان ينتقل بالضرورة إلى البشر. ثمة ما يسميه العلماء "الحاجز بين الأنواع" Inter Species Barrier، يمنع ذلك. ويبدو أن "كوفيد 19" وصل في تطوّره في العالم الحيواني إلى نقطة صار فيها قادراً على الانتقال إلى البشر وإحداث مرض فيهم، وكذلك يشار إلى الحيوان الذي حدث فيه ذلك التطور بمصطلح "الخزان الحيواني" Animal Reservoir. ولأن "كورونا المستجد" فيروس جديد على أجساد البشر، فإنها تكون خالية من المناعة ضده، فيُحدِثُ فيها مرضاً بسرعة نسبياً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"إيدز" و"جنون البقر" و"إيبولا"
هل قفز الفيروس من الحيوانات الى البشر، بفعل الاقتحام المتواصل للبشر لعوالم الطبيعة التي تحيا الحيوانات فيها؟ هل أدى التكاثر السكاني المنفلت والاستهلاك السريع للمصادر الطبيعة، إلى انفلات جراثيم كانت الطبيعة وأشجارها وغاباتها تحتضنها وتبعدها عن الإنسان؟
في أوبئة سابقة، ظهرت تفسيرات من ذلك النوع. ولعل أقربها إلى الذاكرة القول بأن فيروس الإيدز انتقل من أنواع من القردة والغوريللا إلى البشر، بفعل التوغل المتزايد للبشر وأنشطتهم في الصيد واقتطاع الأشجار والوصول إلى أنواع نباتية وحيوانية يسعون وراءها وغير ذلك.
وفي الانتشار المأساوي لفيروس الحمى النزفية "إيبولا" في أفريقيا قبل أعوام قليلة، ظهر بسرعة الدور السلبي لاختلال التوازن مع مساحات الغابات، والاخلال بنظام مستقر لعيش الحيوانات والطيور، خصوصاً الخفافيش. وقد أوصلت تلك الضربة الموجعة دولاً أفريقية كثيرة، خصوصاً دول الساحل الغربي، إلى حافة الانهيار الكامل إضافة الى تكبيدها أكلافاً بشرية مروعة.
ثمة خلل بيئي من نوع آخر، ترافق مع وباء "جنون البقر". إذ أدى التدجين الصناعي للأبقار وحصرها في مساحات ضيقة وتغذيتها بأعلاف ممزوجة ببقايا عظام مطحونة [توخياً لسرعة تسمينها بأقل الكلفة، بهدف زيادة الربحية]، إلى موجة وباء "جنون البقر" التي ساهم إيقاف تلك الطريقة الجشعة في تربية المواشي إلى انحساره. وحدث أمر مماثل، مع اختلاف في بعض التفاصيل، مع "الحمى القلاعية" أيضاً.
في جائحة "كورونا المستجد"، هناك من يحمّل الحيوانات الأليفة التي يتزايد انتشارها في منازل المجتمعات المعاصرة، جزءاً من مسوؤلية انتشار "كوفيد 19"، مشيراً إلى أنها تستكمل دورات تكاثر الفيروس وتنقله بين عوالم الإنسان والحيوان.
ومنذ بداية وباء "كورونا المستجد"، ظهر نقاش عن دور آكل النمل الحرشفي الذي حدث إفراط في صيده واستهلاكه في الصين، كعنصر في انتشار ذلك الوباء، إضافة إلى دور الخفافيش وربما بعض أنواع القطط البرية.
كخلاصة، وبانتظار جلية الأمر، الأرجح أنه من المفيد التفكير بوباء "كوفيد 19" العالمي الانتشار بوصفه صفارة إنذار مدوية ومؤلمة، عن لامبالاة عقلية الاستهلاك المنفلت والربح المتوحش، بالطبيعة وأنواعها الحيّة وغلافها الجوي ومسطحاتها المائية ومصادرها كافة، إضافة إلى الاستهانة بالإنسان نفسه وتجاهل أهميته، وعدم وضع حياته وصحته وتقدمه النوعي في أولوية النمط الاقتصادي، ووصولاً إلى تقديم البشر أولوية البشر في الاقتصاد، قبل أرقام الاستهلاك والسلع والأرباح.