Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الرامايانا": ثاني ملاحم الهند الكبرى

شجاعة راما وإخلاص سيتا يواجهان امتحان الشياطين - اللصوص

رسم شعبي هندي يمثل مشهدا من "الرامايانا"

إسوة بالملحمتين الإغريقيتين الأساسيتين "الإلياذة" و"الأوديسّة"، غالبا ما لا تُذكر الملحمتان الهنديتان الكبيرتن، "المهابهاراتا" و"الرامايانا" إلا معا. غير أن هذا التشابه لا ينبغي أن يضللنا، إذ من بعده، وعلى عكس الحال بالنسبة إلى العملين الكبيرين المنسوبين إلى شاعر الإغريق الأكبر هوميروس، ليس هناك من نقاط تشابه أخرى بين ملحمتي الإغريق والملحمتين الهنديين. فلئن كنا نعرف بحسب المصادر التاريخية أن عملي هوميروس مرتبطان ببعضهما البعض ويحكيان مغامرات تكادان تكونان متكاملتين وتنتميان، لغة أحداثا وتأليفا، إلى زمن متقارب، إلى جانب كونهما لمؤلف واحد بصورة مفترضة، نعرف أن الفارق الزمني بين "المهابهاراتا" و"الرامايانا" واسع جدا قد يصل إلى قرون عديدة، وليسا بالتالي لمؤلف واحد ولا تتشابهان ناهيك بأن طول الأولى يزيد أضعافا عن طول الثانية. فإذا أضفنا إلى هذا كله أن الثانية إنسانية الطابع، رغم أدوار كبيرة تلعبها "حيوانات مؤنسنة" فيها، تقوم على مفهوم البطولة الإنسانية ما يجعلها أقرب إلى الملحمتين الإغريقيتين فيما تتدخل الآلهة والغرائبيات والغيبيات وحتى الحيوانات غير المألوفة في "المهابهاراتا"، ما يجعلها أكثر دنوا من الملحمة السومرية "جلجامش"، ستتوضح الصورة وتدفعنا إلى التروي لدى الحديث عنهما معا.

24 ألف بيت من الشعر

تتألف "الرامايانا" من 24 ألف بيت من الشعر... لا أكثر. وهي كـ"المهابهاراتا" مدوّنة باللغة السنسكريتية، لكنها تحمل على الأقل توقيعا ربما يكون صحيحا وربما افتراضيا: توقيع ماهاريشي فالميكي الذي من المرجح على أية حال أن يكون مؤلف خمسة من أصل الأقسام السبعة التي يتألف منها النص بأكمله، حيث يجمع الباحثون المدققون على ان الأقسام من الثاني إلى السادس هي التي تتسم وحدها بوحدة في الأسلوب واللغة الشعرية، بينما يبدو القسم الأول والسابع مضافين وربما – بحسب التحليل اللغوي – ينتميان إلى مرحلة أكثر حداثة بكثير من تلك التي صيغت الملحمة الأساسية فيها. ومهما يكن من أمر هنا فإن فالميكي يبُجَّل عادة في الهند بالنظر إلى قوة أسلوبه واستخدامه للرموز والكنايات والأمثولات الأخلاقية والأمثال الشعبية وغيرها ما اعتُبر دائما نوعا من إعادة تأسيس للغة السنسكريتية نفسها، ومن ثمّ توحيد معانيها واشتقاقتها بشكل حافظ على وحدتها التي لا تزال قائمة حتى اليوم. ويمكن القول في هذا السياق أن كل هذا يعتبر قاسما مشتركا بين "المهابهاراتا" و"الرامايانا".

إذاً إذا كانت الملحمة الأسبق تتابع حياة وأفعال ومغامرات وعذابات أعداد كبيرة من الشخصيات، فإن تلك التي نحن في صددها هنا، تكاد تقتصر على بطل مركزي واحد هو راما، أمير مملكة كوزالا الأسطورية وحكاية نفي أبيه داشاراتا له من العاصمة أيوضيا طوال أربعة عشر عاما في الغابات بناء لإلحاح زوجة الأب... ومايحدث له خلال عبوره تلك الغابات المتوحشة رفقة زوجته سيتا وأخيه لاكشمانا... بما في ذلك ما يُقدم عليه رافانا، ملك لانكا، من أختطاف امرأة راما وما يسفر عنه ذلك من حروب يتمكن راما في نهايتها من الفوز والعودة إلى آيوضيا حيث يُتوج ملكا في النهاية. ولعل علينا أن نلاحظ هنا نوعا من التماثل، الحدثي العام مع "إلياذة" هوميروس التي تقوم على خطف هيلين من قبل أمير طروادة والحروب التي أسفر عنها ذلك... غير أن هذا لن يقودنا بالطبع إلى فرضية قد تقترح أن إحدى الملحمتين اقتُبست من الأخرى، وليس هذا موضوعنا على أية حال.

خلود الجبال والأنهار

فالأساطير الشعبية السنسكريتية تفيدنا أن فالميكي نظم تلك "القصيدة" الطويلة بناء على طلب من براهما نفسه الذي وعد الشاعر بأنه لو فعل "فإن القصيدة ستبقى خالدة خلود الجبال والأنهار"... ويبدو أن براهما قد وفى بوعده إذ منذ ما يقارب الألفي عام لا تزال "الرامايانا" حاضرة تعايش الحياة اليومية للناس بل تُذكر أبيات عديدة منها كأمثال شعبية، وينشد المغنون مقاطع منها، وتبكي القارئات على مصير راما وعذاباته، كما يتشوق القراء لأن تكون لنسائهم سمات سيتا ووفاؤها، حتى وإن لن يرضوا لهن أبدا بأن يُخطفن يوما، على الأقل لأن ما رجل يجد في نفسه قوة وشكيمة وصبر راما للسعي لاستعادتها.

في القسم الأول من الملحمة، والذي يعتبر مضافا، تطالعنا صور بالغة الروعة للحياة في مملكة أيوضيا حين كان راما لا يزال طفلا يعيش في كنف أبيه... بيد أن صورة تلك الحياة ستعرف ذات لحظة ظلالا عديدة وتشابكات، حين ندخل في الحياة العائلية للملك داشاراتا المتزوج من ثلاث نساء هنّ كوشاليا وكايكيي وسوميترا، ونعلم أنه كان أول الأمر بلا ولد فخاف على ملك عائلته أن يضيع إن حدث له مكروه، ومن هنا راح يتزوج امرأة بعد الأخرى في معمعان قلقه. وبعد حين بفضل قربان قدمه للآلهة رزق ولدا من كوشاليا هو راما، وآخر من كاكيي هو بهاراتا، ثم ولدين من سميترا، هما لاكشمانا وشاتروغنا. إثر ذلك تنتقل الحكاية إلى مملكة جاناكا لنشهد ولادة غير إبنة لملكها... ولكن كذلك، العثور على طفلة وليدة متروكة في الغابة. ويفرح الملك بهذه الطفلة ويعتبرها ابنته ويربيها هي التي ستسمى سيتا وتقترن لاحقا براما حين تتقارب المملكتان بأكثر من زيجة واحدة.

ولئن كان من غير الممكن هنا رواية كل الأحداث الموزعة لاحقا على بقية الأقسام والتي تختلط فيها المغامرات بالمعارك ولحظات الغدر بالصداقة، لا بأس من أن نشير إلى أن ما يستعاد من "الرامايانا" أكثر من أي شيء آخر في الحياة الشعبية، حيث يتفنن الحكواتية في تلاوة الحكاية وأشعارها في المناسبات والأعياد، إنما هو دائما بطولات راما كرمز للمقاتل الشجاع الذي لا يلين، ووفاء سيتا كرمز وصورة لما ينبغي أن تكون المرأة عليه. ومن هنا تحاول الحكايات الشعبية أن تبدأ في معظم الأحيان مع زواج راما الذي كان معروفا بشجاعته وأخلاقه منذ كان مراهقا يعيش تحت رعاية أبيه الملك في آيوضيا، أما الآن فها هو الشعب كله يحتفل بزواجه من سيتا إبنة جاناكا، ملك ميثيلا.

ولكن ما إن يبدو أن الزوجين مقبلان على العيش في سعادة وهناء، حتى تكبر مؤامرات القصر التي تحاك من أجل ضمان الإستيلاء على السلطة لتسفر كما قلنا عن نفي راما إلى الغابات البعيدة وتحديداً بأمل أن تفترسه وحوشها أو يقع مع رفاقه في المنفى فريسة لوحشية قاطنيها. وبالفعل يتوجه راما إلى تلك الغابات التي يُفترض بها أن تشكل مصيره البائس، مصحوبا بزوجته التي تأبى إلا أن ترافقه في السراء والضراء، وبأخيه الذي تتوجه المؤامرات ضده أيضا. وحين يختطف ملك "الباكشاساس" – أي الشياطين اللصوص، وهم قطاع طريق يسومون العابرين الموت والعذاب في الغابات -  سيتا يأخذها إلى جزيرة لانكا حيث يحتفظ بها أسيرة لديه. طبعا أمام هذه الجريمة يجن جنون راما ويقرر شن الهجوم على الملك اللص، لكنه لن يخوض تلك الحرب وحده بالطبع بل سيكون حلفاؤه فيها مجموعات من "الفانارا" وهم من القرود القوية الحكيمة التي تعيش في الغابات، والذين كان ملكهم هانومانت قد التقى سيتا خلال أسرها وعرف بالتالي مكانها ووفاءها لزوجها لذلك قرر تقديم يد العون. وهكذا يشن راما وحلفاؤه الحرب على جزيرة لانكا... وتكون المعركة حامية وعنيفة وقاتلة، غير أن راما يتمكن من الإنتصار فيها في النهاية ويقضي على الشياطين اللصوص وملكهم... ثم يتابع بعد ذلك الإنتصار طريقه، ودائما بمساعدة حلفائه القرود حتى يصل إلى أيوضيا حيث يتمكن من الإستيلاء على عرش آبائه وأجداده ويُنصّب ملكا فيما لا تُنصّب سيتا ملكة إلا بعد أن تمر بما يسمى "إمتحان النار" الذي يهدف إلى التيقن من طهارتها وإخلاصها لزوجها. وتتمكن هي بالطبع من اجتياز الإمتحان بنجاح وسط تهليل الجموع...

المزيد من ثقافة