Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بيت الطين... صندوق ذكريات الريف السوري الضائع

لم يعُد أمام من تقطّعت بهم السُبل سوى ترميم منازل قديمة أو صناعة جديدة

 

عاد البعض على إشادة بيوت طينية يُطلق عليها "القباب" في ظل ارتفاع أسعار مواد البناء (اندبندنت عربية)

يقاسي سوريون ممن فقدوا المأوى، ويعانون شظَف العيش إبان إنهاء بعضهم رحلة نزوح في أصقاع المعمورة، عادوا بعدها إلى أريافٍ همَدت فيها آلة الحرب منها حمص وسط البلاد، والرقة وآخرها حلب شمالاً، يرون بأمّ العين بيوتهم المُدمرة من دون طائل من إرجاعها كما سابقِ عهدها.

وبوسائل بدائية، كالطين وسعف النخل أو الأخشاب، عاد البعض لإشادة بيوت طينية، يُطلق عليها "القباب" في ظل ارتفاع أسعار مواد البناء وتكاليف الإعمار.

الحياة مع الطين

في غضون ذلك، ليس بمتسع القرويين ممن يملكون الغرف الطينية المترامية الأطراف، كانوا قد استغنوا عنها مذ أكثر من نصف قرن انقضت، إلا تأهيلها وترتيبها سعياً منهم للعودة لسكناهم القديم مجدداً بعد أن تحولت هذه البيوت إلى حظائر للماشية في معظمها.

هذا ما يصنعه المزارع في ريف حمص الشرقي، عساف الأحمد، بترميم بيت مصنوع من الطين في حقل والده. ومع انكبابه بترميمه يقول "ها قد عدنا لمسكن الآباء والأجداد، عشت في هذا البيت أيامَ طفولتي قبل نصف قرن".

المزارع ذاته وبعد عودته من نزوحه في وقت سابق، فوجئ بدمارٍ لحق بمنزله في القرية وسط التجمع السكني، "منزلي مؤلف من طبقتين، لا أجد طريقة للسكن، إلا بترميم غرف عدة من بيت الطين لأقطنه، ريثما نُعاود إصلاح ما دُمر، هي تبقى أفضل من العيش في الخيام".

بين الحاجة والأصالة

إزاء ذلك يضع عساف، رب عائلة لتسعة أولاد، اللمسات الأخيرة في بيت طيني، ومعها بداية مرحلة جديدة من العمل في حقل والده شبه المهجور بسبب الحرب.

ويشرح والده كيف صنع أجداده البيوت الطينية، أبو عساف الأحمد (95 سنة) يعلم جيداً طُرقَ إشادة مثل هذه النماذج من البيوت، فقد ساعد في طفولته على بناء العديد منها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويلفت النظر إلى أنها سهلة للغاية، فبعد خلط الماء والتراب، يُحضّر البنّاؤون الوحل المجبول لسكبها في قوالب مستطيلة وتُصنع منها قطع مسطّحة.

 وبعد صناعة ما يسمى "لبن الطين" يتركونها حتى تجفّ في الشمس الحارة "وتساعد بقايا من حصاد القمح والشعير ومزجها في هذه الحجارة على تماسك جدران البيت من العوامل كافة".

أثناء هذا، وعقب جفاف قطع الطين، ينتقل القرويون الذين تحولوا إلى معماريين بخبرة بسيطة، إلى مرحلة صفّ حجارة الطين بعضها قرب بعض يتخلل بين كل واحدة وأخرى بعض الوحل المجبول لتتماسك كبديل من الإسمنت.

إعادة الإعمار

وعلى المقلب الآخر، تبرز المساكن المدمرة المصنوعة بالطراز الحديث كتحدٍ يتطلب إنفاقاً سخياً، حتى تعود أسقفها وجدرانها كما السابق، ومن المؤكد لن تعود في ظل عدم استقرار أحوال البلاد، واستمرار استعار المعارك.

كذلك يعاني الناس ارتفاعاً في أجور اليد العاملة البناءة، ناهيك بعدم توفر مستلزمات البناء من إسمنت وحديد وحجارة، بسبب توقف معظم المعامل المصنعة لمواد البناء والحصار المطبق على البلاد.

العودة إلى التراث

يرى المهندس المعماري فواز قرنفل في حديث إلى "اندبندنت عربية"، أن "لجوء أهالي الريف مجدداً إلى بيوت الطين، لا يندرج ضمن الضروريات، لفترة مؤقتة، ريثما يُعيدوا إنشاء بيوتهم، لكنهم في الوقت ذاته يعملون بفطرة وعفوية على إحياء تراث أجدادهم".

وتطرق إلى ما ألحقته الحرب من أضرارٍ أصابت أنماطاً معمارية تقليدية وتراثية، اشتهر بها ريف حلب الجنوبي. واظب سكان إحدى القرى منها قرية "بنان" على السكن في بيوت الطين، حتى قبل الحرب، ويقول في هذا الشأن "يُشهد لتلك القرية تمسّك أهلها بالبقاء على هذا النمط المعماري القديم، قد يكون الأمر عائداً لضيق حال أهالي هذه القرية، حيث صنفت بالأشد فقراً في سلم دخل الفرد في سوريا قبل الحرب".

ويعدّد المهندس المعماري انتشار هذه البيوت وتوزعها جغرافياً شمالاً في أرياف الرقة وأرجاء الجزيرة السورية، وريف إدلب وحماة، وشرق حمص المناطق القريبة من البادية.

كما عُرف عن هذا النظام المعماري في القرنين السابقين "وتنوعت ميزات هذا النمط، فإلى جانب تكاليفه المادية البسيطة، يبرز ما يمنحه البيت الطيني من الدفء شتاءً ويحمي من قيظ الطقس صيفاً، مع وجود أنواع عدة منه، البيت الذي يعلوه قباب أو السقف المسطح".

نبش الذكريات

وحده انتقال الناس إلى الأبنية الإسمنتية كان المبرر لهجران "الحوش" الطيني، وما عودتهم إليه ثانية إلا إنعاش لذاكرة ريفية زاخرة ضاعت وسط التطور المتلاحق في زمن السلم، والدمار وقت الحرب.

 حيال هذا يتحدث أحد القاطنين في إدلب المدينة، مؤيد إدلبي (70 سنة) عن الغرف المترامية الأطراف بين الحقول والأراضي الزراعية، يتذكر كيف عاش فيها قبل أن يترك قريته وبيت عائلته الطيني ويلتحق بوظيفة في المدينة.

العودة إلى البيوت الطينية مجدداً تعيد نبش مخازن الذكريات، ويذكر إدلبي "مصباح الإنارة الذي يعمل على مادة الكاز، كيف كان يتوهج ونحن نتحلق حول جدنا يروي لي ولأولاد أعمامي قصصاً شعبية وسيرة الأبطال، لا تُمحى من ذاكرتي سهرات ليالي الشتاء في بيت لا يبخل علينا بمنحه الدفء".

لم يعُد أمام أبناء الريفِ السوري ممن تقطّعت بهم سُبل إعادة بناء بيوتهم المدمرة جراء النزاع المسلح، سوى الاتجاه إلى ترميمها أو صناعة بيوت جديدة، وهي بالتالي عودة إلى زمن الأجداد والذكريات الضائعة.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات