Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الفرنسي الطليعي غي دوبور جعل الثورة في خدمة الشعر

مختارات من الاقتباسات التي شكّلت مادة كتبه...وجعلته شاعرا بأقلام الآخرين

الشاعر الفرنسي الراحل غي دوبور (دار النشر)

لطالما ربط الشاعر والسينمائي والمفكّر الفرنسي غي دوبور (1931 ــ 1994) استخدام اللغة الشعرية بالمشروع الثوري الذي قاده. لكن بالنسبة إلى مؤسس حركة "مبدعي الأوضاع" الطلائعية المجيدة، "لا يتعلّق الأمر بوضع الشعر في خدمة الثورة، كما فعل السورّياليون، بل بوضع الثورة في خدمة الشعر"، من أجل تجديده وضمان تغلغله داخل الحياة اليومية، وبالتالي تفجير ما يفصله عن الحياة المعيشة. هذا ما نستنتجه بسرعة في الكتاب الذي صدر حديثاً عن دار "ليشابيه" الباريسية بعنوان "شعر، إلخ" ويجمع للمرة الأولى جزءاً كبيراً من الاقتباسات التي اختارها دوبور كي تكون مادّةً لعمله الكتابي. اقتباسات لا تعود أحياناً إلى شعراء، لكنها تتميّز جميعاً بنظرة غنائية إلى الوجود وباقتضاب يجعلها تبلغ بحدّةٍ وآنية صميم ما يحرّكنا ويبلبلنا.

قبل أن نتطرّق إلى مضمون هذا الكتاب الفريد وقيمته الأكيدة، نشير، لمن يجهل هذا العملاق، إلى أنه ارتبط في بداياته بمجموعة إيزيدور إيزو الحرفيّة لاقتناعه باكراً بسلطة الكلمات والشعر، ثم غادرها عام 1954 ليؤسّس حركة "الحرفيّة الدولية" ومجلة لنشر أفكاره الثورية باقتصاد كبير في الوسائل وفعاليّة قاطعة، وللانقضاض على العبودية التي تخضع لها مجتمعاتنا على يد الرأسمالية. وإثر رفضه ضيق منظور الطلائع الفنية والمحيط الثقافي الباريسي، وسّع طيف علاقاته في كامل أوروبا وأسّس عام 1957 حركة "مبدعي الأوضاع" التي هدفت، بنشاطاتها الحدثية الصادمة، إلى إحداث يقظة جماعية ووعي إلى عملية الارتهان السائدة.

وفي مطلع الستينيات، ولأن الشعر والفن لم يعودا كافيين في نظره، أقصى جميع "الشعراء" و"الفنانين" من حركته ودخل معترك العمل السياسي مع من تبقّى حوله (78 عضواً)، وانطلق في نشر نصوصه الثورية، وأبرزها كتاب "المجتمع الاستعراضي" (1967) الذي وجّه فيه نقداً راديكالياً للرأسمالية التي ترتهن مجتمعاتنا بسلعها، فاضحاً سلوكها "الاستعراضي" الذي تتحكّم به عقيدة اقتصادية تسيّر وتشرّع رؤيةً أحاديّة للحياة، تفرضها على حواس أو إدراك الجميع بواسطة سلسلة من التظاهرات السمعية ــ البصرية والبيروقراطية والسياسية والاقتصادية التي تتضامن في ما بينها من أجل ضمان ديمومة سلطتها الارتهانية وتعزيزها. كتاب لعب دوراً مهماً في انطلاق أحداث مايو(أيار) 68، واستتبعه صاحبه بكتب وأفلام لا تقل أهمّية، قبل أن ينتحر عام 1994، لكن من دون أن تفقد أفكاره الثورية شيئاً من نضارتها وجدواها.

الشكلية القصوى

ومن هذا المنطلق، يقال إن دوبور مبدع أوضاع عبقري، أو سينمائي ذهب إلى أقصى الحدود الشكلية لهذا الفن، أو شاعر ملعون بامتياز، وكل هذه الصفات صحيحة، لكنها تبقى ناقصة من دون الإشارة إلى كونه، قبل أي شيء، قارئاً قلّ نظيره لم يكن يسطّر ما يحلو له داخل الكتب التي طالعها، بل يعيد كتابته على قصاصات رتّبها بشكل موضوعي ضمن خمسة ملفّات: "شعر، إلخ"، "تاريخ"، "فلسفة"، "ماركسية" و"استراتيجيا". استنساخ شكّل خطوة أولى لتملّكه معنى ما كان يخطّه بيده، فتحوّلت هذه المدوّنات إلى آثارٍ لملحمته كقارئ وأيضاً كمادّة لعمله الكتابي. وبما أن هدفه هو إنجاز الفن داخل الحياة، عصر هذه الاقتباسات أو النصوص المدوَّنة مثل ثمارٍ وانحرف غالباً بمعانيها بواسطة تقنية الاختطاف التي مارسها بعبقرية لا تضاهى.

ومن هذه القصاصات، يتبيّن لنا أهمية الشعر والأدب في قراءاته، منذ البداية، واختطافه جملاً أو مقاطع تعود إلى كتّاب ينتمون إلى حقب مختلفة ويتعذّر إحصاؤهم، نذكر منهم بودلير، بوسّويه، دانتي، جويس، بيسّوا، شكسبير، سويفت، رونسار، رامبو، مالارميه، أبولينر، بروتون، فيلون، إيلوار... مراجع مدّت عمله النقدي بقوة كبيرة نظراً إلى مشاركتها إياه تلك العلاقة المباشرة بما يمسّ الكائن البشري بشكلٍ حميم، وتشكيلها بالتالي مختبراً غرف من مادّته نقاط ارتكازه وأفكاره، بعد صقلها.

ومن بين الشعراء الحاضرين في هذه القصاصات، نتوقف أولاً عند اثنين يجّلهما دوبور: أرتور كرافان لكونه "شاعر الأقدار" في نظره، ولوتريامون الذي اختطف منه قوله التالي: "فليعذرني القارئ إن وجد هذه الجملة طويلة، لكن عليه أن لا يتوقّع منّي حُثالات". ومن بودلير الذي عشق المدينة وتكلّم عنها، مثله، تملّك شاعرنا أقوالاً كثيرة، منها: "باهرة مثل الفجر/ ومواسية مثل الليل" أو "أردتُ تكلّم لغة عصري الجميلة" الذي أضاف إليه: "لكني لم أكن أكترث كثيراً لإصغاء الآخرين إليّ". ومن نوفاليس: "حيث هم الأطفال، يكمن العصر الذهبي". ومن هولدرلن: "مثل النجوم ندخل/ في ليل الحياة الخاطف".

أما اهتمام دوبور الأكبر فرصده للحركة السورّيالية من أجل الاحتفاء بنقطتها المضيئة، أي "سحر الطفولة بلا إكراهٍ منطقي"، وبـ "العودة الظافِرة لأفضل ما فيها"، وأيضاً من أجل تصفية هذه الحركة من الشوائب الباطنية التي اعترتها في مرحلتها الأخيرة. ولا عجب في هذا الاهتمام، فدوبور، أكثر من أي شاعر أو مفكّر معاصر له، فهم أن رهان حقبته وُلد مع هذه الحركة، فتبنّى معظم نظريات رائدها وأعاد تحيينها.

تأثرات معلنة

ولا شك في أن تأثّره الكبير بأندريه بروتون هو الذي يفسّر أيضاً اهتمامه بالشعر الصيني، الحاضر بقوة في قصاصاته، أو بالكاتب النمساوي العملاق روبرت موزيل الذي دوّن من روايته الشهيرة، "رجل بلا صفات"، جُملاً كثيرة، نذكر منها واحدة تشكّل خير أمثولة في السعادة: "ثمة شيءٌ في الحياة البشرية يفرض على السعادة أن تكون موجَزة، خاطفة، وذلك إلى حد تبدو السعادة والإيجاز مفهومين يتعذّر فصلهما، مثل أخٍ وأخت".

تتعذّر هنا محاصرة جميع الاقتباسات التي تملّكها دوبور من مراجعه "الشعرية"، ولكن نستحضر اثنين أخيرَين: الأول استقاه من كتاب شاتوبريان "حياة رانسيه"، ويصلح لأن يكون بورتريه له: "كنا نشعر داخله بشغفٍ مكتوم كان يلقي على أيِّ من أفعاله ظلّ نضالٍ مجهول"، والآخر من كتاب "أيام منفى" لمواطنه الفوضوي أرنست كوردوروا، ويصلح لتلخيص مضمون "شعر، إلخ": "هذه السردية ليست اعترافاً ــ لا أدين بذلك لأحد؛ ولا بوحاً سرّياً ــ لا أفعل ذلك إلا مع أصدقائي؛ ولا سيرة ــ أشكر الله على أنني لستُ رجلاً شهيراً؛ ولا نظرية اجتماعية ــ لا أطمح إلى حمل لقب "زعيم ملّة"؛ ولا مذكّرات ــ وإلا لكان ذلك ادّعاءً فارغاً من المعنى في زمنٍ ترتفع خلاله رؤوسٌ كثيرة فوق الرؤوس الأخرى لجذب الانتباه إليها؛ ولا انطباعات سفرٍ ــ يملك السيّاح سيقاناً ولا يسيرون، عيوناً ولا يرون، ذكاءً ولا يتأمّلون في أي شيء، وقلباً لا يشعر بشيء. (...) هذه السردية أفلتت مني مثل نواحٍ، لأنني كائن اجتماعي، ولأن الآخرين لم يتركوا لي سوى قلمي للتواصل معهم".

يبقى أن نشير إلى أن لغة كلّ من بوسّويه وباسكال ــ الحاضرَين بدورهما في الكتاب ــ تركت من دون شك أثراً دامغاً في لغة دوبور، الكلاسيكية إلى أبعد حدّ. لغة شكّلت في قدراتها التعبيرية المذهلة وإيحاءاتها خير ركيزة له للتكلّم لا في اللغة، بل في الشعر، وللعمل على تغذيته ونشره. الشعر الذي لم يضعه في خدمة الثورة، كما سبق وأشرنا، بل وضع الثورة في خدمته، كي يبقى دائماً حيوياً، فتتجدّد الحياة به، وقد صارت شعرية.

المزيد من ثقافة