Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الروايات اليتيمات... حفرت عناوينها وأسماء أصحابها في الذاكرة الإنسانية

باسترناك وكانتي وسيرفانتيس وسالينجر وغيرهم خلدوا اسماءهم بعمل روائي واحد

مشهد من فيلم "ذهب مع الريح"

يعج التاريخ بكتّاب انفقوا الدهر في الكتابة حتى صاروا مثل ماكينات تضخ العمل الأدبي بعد الآخر. ومنهم من أسعدهم الحظ فتسنى لإنتاجهم العديد النشر والوصول إلى القراء. على أن السواد الأعظم من هؤلاء أخفقوا في المساهمة الفعّالة في رفع المستويات الفكرية لمجتمعاتهم المحلية دعك من الأسرة الإنسانية الكبيرة.

من جهة مقابلة تجد فئة من الكتّاب المؤثرين الذين أثبتوا قدرتهم على الكتابة الرفيعة وتعددت أعمالهم لكنهم طاروا إلى سماء الشهرة على ظهر عمل واحد. ومن هؤلاء غابرييل غارثيا كاركيز الذي صار ضمير أمته ولم يخرج إلى العالمية إلا بعد روايته "مائة عام من العزلة". ومنهم برام ستوكر (دراكيولا)، وتشارلوت برونتي (جين اير)، ووليام غولدينغ (سيد الذباب)، وإف سكوت فيتزجيرالد (غاتسبي العظيم)، وانطوان دو سان اكزوبري (الأمير الصغير)، وأرونداتي راي (إله الأشياء الصغيرة)، وأرافيند أديغا (النمر الأبيض)... على سبيل المثال.

ثم تجد، من جهة ثالثة، فئة من الكتّاب لا يربو إنتاج أي منهم على عمل واحد، لكنهم تمكنوا عبره من وضع بصماتهم واضحة على التراث الثقافي الذي لا يمحوه الزمن. ومن هؤلاء إيميلي برونتي (شقيقة تشارلوت) التي نشرت روايتها الوحيدة المكتملة "مرتفعات ويذرينغ"، إحدى أشهر الأعمال الكلاسيكية العالمية، في 1847 وتوفيت بالسل بعد سنة على نشرها وقبل أن تكمل روايتها الثانية. ومنهم جون كنيدي تول (كونفيدرالية الخائبين) الذي اكتأب لفشله في نشر روايته حتى انتحر في سن 31 قبل أن تٌنشر أخيرا وتعتبر من درر الأدب الأميركي.

هذه الأخيرة هي الفئة التي تهمنا في هذا المقال، فنتناول فيه حفنة صغيرة من الأعمال التي لم يكتب أصحابها غيرها، ومع ذلك وصلت إلى مرتبة الصفوة العليا وصارت من الأعمدة التي يقوم عليها التراث الإنساني الأدبي:

"ذهب مع الريح" (1936): مارغريت ميتشيل

بدأت الأميركية مارغريت ميتشيل كتابة "ذهب مع الريح" - عن حياة الشابة سكارليت أوهارا على خلفية الحرب الأهلية الأميركية في 1926 - فقط لتمضية الوقت أثناء نقاهتها من حادث مروري، وعنونتها "غدا يوم آخر" (وهو السطر الأخير في كتابها). ومع نشر الرواية بعنوانها المعروف (المأخوذ من عنوان قصيدة للكاتب الإنجليزي إيرنست دوسون) في 1936 صارت أكثر الكتب مبيعا في الولايات المتحدة وحصلت في 1937 على جائزة "بوليتزر" ثم صارت أحد أكبر أعمدة السينما الهوليوودية في 1939 عندما حصل الفيلم على ثماني جوائز أوسكار (رقم قياسي). وفوجئت ميتشيل قبل أي إنسان آخر بأن روايتها صارت بمرور الزمن إحدى أشهر الروايات في التاريخ فعزفت عن الأضواء والشهرة وامتنعت عن الكتابة حتى وفاتها. وفي 1996 نُشرت لها روايتها القصيرة "ليسون المفقود" وهي العمل الوحيد الذي لم تدمره وكانت صبية في الخامسة عشرة فقط عندما كتبته في 1916، وعليه فلا يمكن الحكم عليها من خلاله.

"دكتور زيفاغو" (1957): بوريس باسترناك

بلغت مكانة هذه الرواية حد أن مؤلفها، بوريس باسترناك، مُنح بسببها جائزة نوبل للآداب في 1958، بعد عام على نشرها. وهذا على الرغم من أنها كانت الرواية الوحيدة لهذا الروسي الذي اشتهر على الساحة الدولية كأحد أبرز شعراء القرن العشرين. و"الدكتور زيفاغو" دراما رومانسية تدور على خلفية الفترة بين الحرب العالمية الأولى والحرب الروسية الأهلية (1918-1922). على أن ثمة أمرين لا تُذكر "دكتور زيفاغو" بدونهما: الأول هو أن المنظور السياسي الذي كتب منه باسترناك روايته هذه جعل نشرها في روسيا السوفياتية مستحيلا ولم يكن لها أن تخرج إلى العلن لولا أنها هُرّبت ونشرت في أوروبا. وعندما عادت على باسترناك بجائزة نوبل اضطر لرفض الجائزة تحت تهديد السلطات الروسية له بالويل والثبور. والثاني هو تحويلها إلى فيلم (بالعنوان نفسه) من إخراج ديفيد لين وبطولة عمر الشريف على رأس كوكبة من نجوم السينما وقتها تشمل إليك غينيس وجولي كريستي وجيرالدين تشابلن ورود ستيوارت. ونال هذا العمل عشرة ترشيحات لجوائز الأوسكار 1965 (نال خمسة منها بسبب المنافسة الدموية من "صوت الموسيقى" في ذلك العام) وأصبح علامة فارقة في تاريخ السينما. وبالطبع فقد كانت أولى بطولات عمر الشريف في فيلم من هذا الوزن وأكدت مكانته كعملاق هوليوودي بعد سطوع نجمه في دور مساعد ("لورنس العرب" من إخراج ديفيد لين أيضا).

 

"صورة دوريان غراي" (1890): أوسكار وايلد

مثل بوريس باسترناك، لم يُعرف عن الكاتب الآيرلندي أوسكار وايلد كتابته القصة رغم أنه كان شاعرا مفوّها ودراميا من علية الكتاب المسرحيين. لكنه، مثل الشاعر الروسي، كتب رواية وحيدة هي "صورة دوريان غراي" التي نشرت للمرة الأولى كاملة في إصدار خاص لمجلة "ليبينكوتس" الأدبية. وهي عن دوريان غراي الذي تميّز بـ"الجمال". وعندما هام به فنان تشكيلي وصوّره في لوحة زيتية، تمنى غراي (في تحالف مع الشيطان) أن يحتفظ هو بشبابه ومظهره وأن يفعل الزمن باللوحة ما كان سيفعله به. ويستجاب دعاؤه فيقضي بقية عمره شابا لاهيا عربيدا ومحطما لحيوات من حوله.

على أن "صورة دوريان غراي" قوبلت من الجمهور والنقاد على السواء بهجوم غير مسبوق في التاريخ الروائي. فوصفت بأنها "منحلّة وملوّثة ومخنثة" (في إشارات تشمل الجمال الذكوري والحب المثلي وومسائل أخلاقية أخرى عسيرة الهضم على المجتمع الفكتوري المحافظ. ولنذكر هنا أن وايلد نفسه كان مثليا). ولهذا فقد خضعت هذه الرواية للحذف والتعديل وعانت من مقص الرقيب منذ نشرها للمرة الأولى وأعيد نشرها عدة مرات "منظّفة من ما يخدش الحياء". ورغم أن وايلد كتبها في ثمانينات القرن التاسع عشر فلم تنشر كاملة كما اختطها قلمه الا في 2011 عبر دار نشر "بيلناب" التابعة لجامعة هارفارد الأميركية.

"الكوميديا الإلهية" (1320): دانتي اليغييري

تعتبر "الكوميديا لإلهية" أهم وأشهر القصائد القصصية الخارجة من رحم القرون الوسطى سواء في موطن شاعرها أو على مستوى التراث الأدبي العالمي. وأنجزها مؤلفها، دانتي اليغييري، على مدى 22 سنة بين 1308 و1320، قبل سنة من مماته بالملاريا في 1321. وكتبها بلغته الأم (الإيطالية التوسكانية) رغم أن الاتجاه السائد وسط الكتّاب وقتها كان هو الكتابة باللاتينية باعتبارها اللغة عابرة الحدود إلى سائر المتعلمين في مختلف البلاد الأوروبية. والقصيدة عبارة عن رحلة متخيلة للشاعر نفسه في الحياة بعد الموت، داخل إطار وجهة النظر الكنسية الغربية للدار الآخرة، وتقع في ثلاثة أجزاء هي "الجحيم" و"المطهر" و"الفردوس". وقد يدهش القارئ إزاء تسمية القصيدة "كوميديا" رغم موضوعها الجاد. السبب هو أن كلمة "كوميديا" في معناها الكلاسيكي كانت تعني كل عمل يأتي إلى ختام سعيد حتى وإن لم يحتو على أي قدر من الفكاهة. وبما أن القصيدة تنتهي في مقام سعيد هو الفردوس فهي بالتالي "كوميديا".

يوصف دانتي بأنه "أبو اللغة الإيطالية" ويعتبرونه في إيطاليا il Sommo Poeta "الشاعر الأكبر". ويقال إن تأثيره لا ينكر على عمالقة الشعراء الأوروبيين أمثال ميلتون وتشوسر وتنيسون وإليوت، وإن العالم يتقاسمه إثنان لا ثالث لهما هما دانتي وشكسبير.

"دون كيشوت" (1615): ميغيل دي سيرفانتيس

إذا كان دانتي هو "ابو اللغة الإيطالية" وكاتبها "الأكبر"، فإن له نظيرا في إسبانيا هو ميغيل دي سيرفانتيس (1547 – 1616) مؤلف إحدى أهم الروايات في الأدب العالمي وهي "دون كيشوت". وبلغت شعبية هذه الرواية أن ترجمت إلى ما لا يقل عن 140 لغة ولهجة، وتحتل حتى الآن المرتبة الثانية بعد الإنجيل في قائمة الكتب الأكثر ترجمة. ومن النقاد اليوم من يعتبرها أول وأفضل الروايات في تاريخ الأدب الغربي على الإطلاق. ويكفي أن الإسبانية تسمى أحيانا "لغة سيرفانتيس" مثلما تسمى الإنجليزية "لغة شكسبير".

الرواية – واسمها الكامل "جنتلمان لا مانشا العبقري دون كيشوت" (أو دو كيخوته) – نشرت على جزأين: في 1605 ثم 1615. وفي جزئها الأول يبتدع سيرفانتيس شخصية مؤرخ عربي يسميه سيدي حامد بن الإيلي ويقول إنه ينقل الوقائع من لسانه. والرواية كاملة تدور حول مغامرات نبيل من لا مانشا يتأثر بقراءاته عن الفرسان حتى يفقد عقله ويخرج ليستعيد إلى الفروسية وإلى الأمّة مجديهما الضائعين. وبالطبع فإن أشهر أجزاء الرواية هي مناطحة دون كيشوت طواحين الهواء، التي صارت تستعار للحديث عن البطولات الزائفة المفتعلة وعديمة الجدوى.

"حارس حقل الشوفان" (1951): جيه دي سالينجر

رغم أن هذه الرواية القصيرة لا تخلو من لغة وأحداث أنسب للقراء فوق سن 18، فهي موجهة لقطاع المراهقين وتتخذ موضوعها من عالمهم المرئي بعيني بطلها الصغير هولدن كولفيلد. وهذا صبي في السادسة عشرة من عمره يبدأ حكايته في اليوم الذي طُرد فيه من المدرسة لسوء الأداء والسلوك. ومع ذلك فهو صبي قادر على سرد حكايته ساخرا من النواقص في عالم البالغين الذي سيدخل فيه قريبا من بابه العريض، وقادر على الشعور في الوقت نفسه بأن انتقاداته لهذا العالم تنطبق إلى حد مزعج على شخصه هو أيضا.

هذا الجسر الوعر بين عالمي الصغار والكبار هو الذي حدا بالمؤلف الأميركي، جيه دي سالينجر، لاستلاف عنوان وموضوع قصيدة "الآتي عبر حقل الشوفان" لمواطنه روبرت بيرنز التي يرمز فيها الشوفان إلى براءة الطفولة. وبسبب موضوع الرواية هذا والمهارة العالية في كتابتها في أسلوب يجمع الوجع والفكاهة في الآن نفسه، اعتبرت من أعمدة الأدب الروائي الحديث وقذفت بكاتبها إلى قمم من الشهرة ضاق بها فعزف عن الكتابة واعتزل الناس حتى مماته في 2010 عن واحد وتسعين عاما.

 

"الفهد الصغير" (1958): غيوسيبي توماسي دي لامبدوسا

رفض الناشرون – لأسباب سياسية - هذه الرواية حتى ممات مؤلفها الإيطالي، غيوسيبي دي لامبدوسا، في 1957. وعندما نشرتها أخيرا دار فيرتنيللي، بعد سنة على وفاته، صارت الأكثر مبيعا في تاريخ إيطاليا واعتبرها النقاد، سواء داخل إيطاليا أو خارجها، إحدى أهم الروايات التاريخية على مر مسيرة الأدب العالمي. وفي 1963 حولها المخرج لوتشينو بيرلسكوني إلى فيلم نال "السعفة الذهبية" في كان.

واستمد دي لامبدوسا حياة جده الأمير فابريزو توماسي موضوعا لروايته في فترة التغييرات السياسية والاجتماعية التي شهدها المجتمع الصقلّي بعد ثورة 1848 وتوحيد ايطاليا. وكتبها بحثا عن الفكاك من قبضة الاكتئاب الذي أصابه بعد تدمير قصر لامبدوسا في هجوم الحلفاء على صقلية خلال الحرب العالمية الثانية.

ورغم (وربما بسبب) الجدل السياسي الحاد بين اليمين واليسار الإيطالييْن حول مضامين الرواية والتهافت على الاطلاع على قصة تكشف خبايا حقبة مهمة في التاريخ المعاصر، فقد نالت أرفع جوائز البلاد الأدبية في البلاد (ستريغا) في 1959 واعتبرها النقاد (حتى الآن) أحد أبرز معالم التاريخ الأدبي الحديث في إيطاليا والغرب عموما.

 

المزيد من ثقافة