Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فوزي يمين... يطلق سهم الشعر في رمية طويلة

ديوان "وقت بين سيكارتين"... البحث عن اشكال جديدة لقصيدة النثر

الشاعر اللبناني فوزي يمين (دار النشر)

في ديوانه الشعري الأول، بعنوان "المستلقي على طابقه الأرضي" (1994)، كان الشاعر فوزي يمين، يضع الركائز الأولى للغة شعرية، ولقصيدة نثر تختلط فيها الأساليب والنكهات المستوحاة، وتذوب فيها عوالم وأمكنة وشخوص بلغة تحاول أن تنسج شعريّتها من واقع الكائن الفرد المهجوس بالتمايز عن الجماعة والوطن من دون الطبيعة، الفرداوية كذلك، من مثل الشجرة والنهر والبحر والجبل. للشعرية في هذا الكتاب، وكما في أول كتاب يخطّه شاعر، يخطو خطوته الأولى في مضمار الألف ميل، وظيفة معيّنة وهي إعلان ولادته شاعراً، وتبيينٌ بليغٌ لقدرة لغته الشعرية على التعبير عن ذاتية أو مزاجية ذات عناصر بارزة وقابلة للتكوّن عبر الأعمال الشعرية الآتية. وهذا ما أمكنني ملاحظته لدى قراءة الأعمال الشعرية الأولى لشعراء قصيدة النثر المعتبرة "نقيضاً للقصائد التقليدية... ما دامت قصيدة النثر كما يقول الناقد الفرنسي ريفّاتير لا "أبياتاً ولا إيقاعاً ولا رؤية أو قافية"، ولا سيما اللبنانيون بدءًا بكتاب "لن" لأنسي الحاج، ومروراً بمجموعات الشعراء الأولى: من مثل "أيها الطاعن في الموت" لبول شاوول، و"زوار الشتوة الأولى" لعباس بيضون، ، و"الغابة المقفلة" لعبدو وازن، و"بحيرة المصل" ليحي جابر و"صلاة الليل تطيل اللوز شبراً" لمحمد ناصر الدين وغيرهم.

 وبالعودة إلى كتاب الشاعر فوزي يمّين الأول، يمكن القول إنّ الشاعر قصد إلى بسط سيرة ذاتية مختصرة، بل سيرة مجتزأة عنوانها الأسلوبي: التمرئي، "يداي على الطاولة قفاي على الكرسي وقدماي على الأرض". وبعد أن يسرد محطات منتقاة من طفولته وفتوّته ("كنتُ الأول في المدرسة...") يمضي إلى انتقاء هواياته، يقولها من دون أي جهد لغوي في رفع قوله من سجلّ الكلام المألوف إلى المتين. ولكأنّ الشاعر، في ما يرسم لأسلوبه على امتداد كتابه الأول إنما كان يؤثِر تجريد لغته من كل عناصر بلاغتها القديمة وتقريبها أكثر من سجلّ الكلام العاميّ لا المحكيّ، شرطاً أوّلياً لإيكال لغة الشعر مهمّة الكشف عن كيان الشاعر في زمنه ومكانه وانتمائه المطلق إلى ذات متفرّدة بمزاجيتها وعاديّتها وبنبرتها العالية، في آن معاً. "عرفتُ أن لا جذورَ لي لا أفقَ وظهري مكسور..." / "يداي على الطاولة قفاي على الكرسي وقدماي على الأرض... / مرّ الهواء على الشجرة، فابتسمتُ. لم يكن في قلبي ماء ولا في رأسي لكنّي ابتسمتُ..." (ص 18) "قدّام عتبتنا / وترٌ يشدّ البحر بأذُنيه يخبزُ النهار/ وجورة أولادنا ترتّب مزاجَ البيوت." (ص 33).

وعلى الرغم من هذه المزاجية التي أقصى ما تتجلّى في معجم الإطار المحلّي (البيت، القدم، اللعب، الريف غير الرومانطيقي، الوقت، وأعضاء الجسم...)، فقد أمكن الشاعر الاشتغال على أسلوبه وجملته الشعرية التي صارت مراوغة ومطّاطة ومتفرّعة، في نهاية المجموعة الشعرية، بعد أن كانت أحادية البنية وبسيطة التراكيب، على هذا النحو: "لم يبقَ منك أحد/ يا ضوء/ وطارت يدايَ.../ كان الهواء حافياً / كان الجبل مغمضَ العينين.../ لمجرّد أنّ ساعة يدي منطقية مع نفسها/الأشجار البعيدة هي دائما أشجارٌ بعيدة..." (ص 108).

قلتُ هذا لأفترض أنّ ما أقرأه في شعر يمّين الجديد، الصادر بعد ستة وعشرين عاماً (2019)، بعنوان "وقت بين سيجارتين" (دار النهضة) سيكون استمراراً لأسلوبه وتنمية له في حدود تتفاوت اتّساعاً أو ضموراً، وتقتضي الإضاءة على البنى الشعرية التي تتشكّل منها لغته الشعرية وذلك على ضوء المسلّمة النقدية التي بدأت بها المقالة البحثية، عنيتُ اعتبار أنّ ثمة قالباً مولّداً في قصيدة النثر، له وظيفتان: توليد الدلالة وتوليد شكل ثابت مغاير للأشكال التقليدية السابقة في كتابه الأخير "في الوقت بين سيجارتين" يستأنف الشاعر تجربته الشعرية، في قصيدة النثر، مواصلاً بناء عالمه المستعاد، حيناً من فتوّته، وهو في أوائل الخمسينات اليوم، وحيناً آخر من التمرّد المضاعف على الحرب، واليأس، والتكرار، والانطواء، والموت الباكر. وبالحماسة نفسها، أراه يعلي البراءة الريفية، حيناً بلغة تحاكي لغة شوقي أبي شقرا، المتأنية والانتقائية، ويقف إزاء بعض مظاهر زمنه، مثل موقفه من القانون ("تنفّسْ" ص 57) ومن النشوة (ص 64) والاستمناء، واليوغا (ص66) ومن "التحذيرات الأمنية" (ص 67-69)، ومن الصلاة ("صلوات"، ص 75) والمعنيين بها، ومن الطقس، والأفكار، والخواطر الصغيرة، والدموع، ومن الحرب التي لا تعرف أن تتوقّف، وغيرها من المواقف والمواضيع من أجل أن

قصائد  مشهدية

يسجّل عبرها تصوّراً شبه وافٍ عن العالم الخُلُقي، لا الفلسفي، الذي يصدر عنه الشاعر يمّين، وبه يوشّح قصائده المشهدية، المطعّمة بسّردية تحاكي الحدث اليومي وتستخلص منه تفصيلاً غريباً فيكون هو الالتماعة الشعرية نفسها. وهذه الأخيرة، أي المواقف والعالم الخُلُقي المتنامي، ما كانت لتظهر في عمله الأول، وإنّما هي نتاج سنوات طويلة من الاختمار والتفكّر في تكوين مادة الشعر ودلالاته اللتين تستدعيهما قصيدة النثر التي اختارها الشاعر يمّين نوعاً شعرياً لا ينازَع ولا يُفاضَل.

 في القصيدتين الطويلتين اللتين يستهلّ الشاعر بهما كتابه ("بطاقة هويّة"، و"في الوقت بين سيجارتين")، يحاول أن يطبع، عن ذاته، صورتيْن متكاملتين: الأولى، وفيها سماتٌ دالّة على كائن مستلب (مخنوق/ مفتّت/، مسحوق/، مزروب في نقطة من الخوف/، معزول كصوت في غرفة..." (ص 6) يتأرجح بين الاستلاب والإيمان، وبين الانتماء إلى المكان ووضعية اجتماعية وبين الإرادة في نقضهما والتهكّم عليهما. أما الصورة الثانية، ففيها سمات متجانسة لمزاجية سريعة يقتنصها الشاعر ليجعل منها محطّات تأمّل في متعلقات التدخين وشخوصه وإيحاءاته، والتي تستحضر، بفعل التداعي ربما، بعض كتابات الشاعر بول شاوول، "دفتر سيجارة"، ويوسف بزّي، وفادي أبوخليل، ممّن يجعلون السيجارة عنواناً لمزاجية هي من صلب تكوين نرجسية الشاعر المعاصر، شاعر قصيدة النثر، وخفّته، وتهكّمه بشخوص الماضي والحاضر، بدليل أنّ غالبية المقاطع الشعرية التي اصطنعها الشاعر "بين سيجارتين"، كانت من أجل خلق إيقاع زمني خاص تستطيع به ذاتية الكائن التغلّب  على إيقاع الزمن الضاغط عمودياً وأفقياً، للوقوع في حبّ امرأة عابرة، ولمنع الضجر، وانتظاراً للكلمات أن تأتي وقت الكتابة، ولإنجاب ولد "على وجه السرعة"، وللنظر مليّاً في "سنوات الرماد الطويل" (ص 17). لهذه المحاور الماثلة في القصيدتين، وغيرها الكثير ممّا تحفل به المجموعة الشعرية "في الوقت بين سيجارتين"، من مثل الانتظار والصلوات وخواطر صغيرة والمغنّي والحياة والأولاد والموت، تستدعي من القرّاء المزيد من التأمّل والغوص في ما تركه الشاعر من لقى ومشاهد شعرية، فيها الكثير من الغنائية المبطّنة بالتهكّم المرّ والأبيض حيناً بعد آخر.

 أمّا اللغة الشعرية التي لا يأنف الشاعر من النزول بها إلى سطح العامّية أحياناً، ولا سيما في الكنايات ("الشاطر بشطارته"، و"كل شيء بسعره"، و"بقي طعمه تحت لساني"، و"ينبغي أن تكرع قدحين من الفودكا")، فلا يلبث أن يرتفع بها على صهوة صورة شعرية هي استعارة مكنية تمثيلية، من مثل: "لغيمة وحيدة تسبح برئة واحدة في بهاء الفجر". (ص 58)، أو "شجرة نائمة في أغصانها. قمرٌ يتلصّص من بين أوراقها" (ص 87) وغيرهما من الصور الشعرية ومن المشاهد الشعرية المتآلفة والمتضافرة لإخراج مناخ القصائد الواجب الوجود لتشكيل لوحة القصيدة المتكاملة، في ما يشبه خلفية اللوحة، في فنّ الرّسم، اللازمة لزوماً تامّاً لبنيان اللوحة.

تجانس شعري

وماذا عن بنى قصائد النثر في المجموعة الشعرية؟ للإجابة، أقول إنّ ما لا يقلّ عن ثلث القصائد الاثنتين والسبعين (72) هي قصائد طويلة، ومنها ما هو قصائد تقوم على صيغة تركيبية ولاّدة صيغ وجمَل شعرية من مثل "في الوقت بين سيجارتين"، ومنها ما أعتبرها أناشيد، لأنّ الشاعر عمد إلى تقسيمها مقاطع شعرية متجانسة ومرقّمة، كما هي الحال في قصيدة "صلوات" (ص 75-83)، ومنها ما قسّمها مقاطع فاصلاً في ما بينها بنجوم طباعية، من مثل: "أسئلة" (ص 92-93)، و"خواطر صغيرة في مدينة كبيرة" (ص 114- 119) و"العصفور" (ص 120-122) وغيرها، مما لا يتّسع له المجال هنا. أما القصائد المفردة -وهي الغالبة لما عداها- فتقوم على صيغة كبرى، على نحو ما أشارالناقد الفرنسي ريفاتيرّ، تتولّد منها صيغ تركيبية أو تتفرّع عنها صيغ مشابهة جزئياً، وتتكرّر صيغ أخرى حتى إشباع البنية في الختام.

يكتب الشاعر في قصيدة "هواية": أرسمُ رجلاً يدخّن غيمة مَجّةواحدة كأنّه يسحبها/ من بلعوم السّماء،/ أرسمُ قمراً نائماً على بطنه كأنه يصوّرنا.../ أرسم شمساً ضربها النّعاسُ فوقعتْ في البحر وغابتْ/ أرسم فتاةً خجولة تتسلّل بحذائها الجديد داخل حلُم حافي القدمين.../ أرسمُ بيتاً صغيراً.../ أرسمُ صاروخاً مقذوفاً من الأرض.../ أرسم أرضاً تحاول أن تعلو عن الأرض ولا تستطيع.../أرسم قوس قزح.../للمطر اسم مكتوب على وجه الماء.../أعرفك..."

تبقى أسطورة الذات التي لا أقوى الآن على بسطها للشاعر فوزي يمين، سوى في ملامح سبقت الإشارة إليها، والتي أحسب أنّ تكوينها رهنٌ بتقصٍّ دقيق وموضوعي لكلّ الصور الهاجسية التي حفلت بها أعمال الشاعر يمين، والتي تواترت على نحو تلقائي وغير واعٍ، وفقاً لناقد في علم النفس البلاغي شارل مورون، وهذا ما أتركه للاعمال الشعرية اللاحقة التي ستتوالى، على ظنّي.

المزيد من ثقافة