Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"المجموعة" لماري ماكارثي... تقلبات المرأة الأميركية

عندما يضع المفكر مواهبه في خدمة الثقافة الشعبية

من فيلم "المجموعة" المقتبس من رواية ماكارثي  (غيتي)

في بدايات ستينيات القرن العشرين حدث لرواية شعبية، كتبتها واحدة من كبار المثقفات والمتمردات "النسويات" الأميركيات، أن بقيت على لوائح "نيويورك تايمز" لأكثر الكتب مبيعاً طوال سنتين كاملتين، ثم حين بدا أن المبيعات قد خفت، جاء فيلم مقتبس عن الرواية ليعيد إحياءها من جديد. كان الكل يتندرون حول ذلك الحدث الأدبي الكبير وينصرفون إلى تحليله. لكن الكاتبة كانت تجلس بعد ظهر كلّ يوم مع صديقة لها لتسخرا من الرواية نفسها وتبديان دهشتهما كيف أن المثقفة الكبيرة لم تحقق في أي من كتبها العميقة ولو عُشر النجاح الذي حققته الرواية. ولعل من المسلّي أكثر أن نذكر أنه بعد ذلك بربع قرن وبعد موت الكاتبة طلبت إحدى دور النشر من كاتبة معاصرة شابة أن تعيد كتابة تلك الرواية بصورة عصرية فقبلت وكانت النتيجة، رواية كانت الأساس في المسلسل الشهير "الجنس والمدينة" الذي يحسب عادة في خانة الفنون المبتذلة.

مجموعة من نساء مخمليات

ما كنا نتحدث عنه أصلاً أول هذا الكلام ليس سوى رواية "المجموعة" التي أصدرتها ماري ماكارثي في عام 1963. أما الصديقة التي نشير إليها فليست سوى الفيلسوفة هانا آرندت. ونعرف أن ماري وهانا كانتا تعتبران من أذكى سيدات الثقافة الأميركية في ذلك، ولكن مع هذا علينا ألا نزدري بـ"المجموعة" التي تكاد تكون أشبه بسيرة مفتتة لماري ماكارثي، حيث، كما ستقول لاحقاً بنفسها، استعارت من ملامحها الخاصة وملامح عدد من رفيقاتها في الدراسة الثانوية لتركّب تلك الشخصيات الثماني التي يقوم العمل على وصف حياتهن منذ تخرجهن إلى موت واحدة منهن، هي تلك التي تبدأ (الحكاية) أصلا بعرسها. ولقد وضعنا كلمة حكاية بين هلالين، لأن ليس في الكتاب حكاية؛ بل هو مؤلف من عدد كبير من حكايات من الواضح أن الكاتبة قد أرادت منها أن تصور حياة جماعية لفتيات طبقة معينة من المجتمع الأميركي يعشن حياتهن الممزقة بين واقع اجتماعي يقودهن إلى حياة سطحية تافهة وبين أحلام متنوعة لكنها أكثر تقدماً من واقعهن المزري، رغم انتمائهن إلى طبقة الحلم الأميركي.

من هنا، إذا كانت "المجموعة" تبدو منسية اليوم، فيما تعيش عشرات الملايين من نساء أميركا في ظل أشباح بطلاتها، إنما بواسطة النسخ المقلدة لهن في المسلسل التلفزيوني المذكور، فإن الرواية ونساءها لعبن دوراً مدهشاً في تغيير الصورة النمطية للمرأة الأميركية ومحاولة إنقاذ تلك المرأة القديمة التي كانت تشارك في بناء الأمة قبل أن تأتي الخمسينيات والستينيات وحقبة الازدهار لتحولها ثرثارة تفعل عكس ما تقول و"تتبرجز" فيما لا تتوقف عن لعن البورجوازيين والبورجوازيات.

صورة ناقدة

والحقيقة أن هذه الصورة الناقدة كانت هي ما دفع ماكارثي إلى وضع تلك الرواية منطلقة فيها من رصدين؛ رصد لولادة المرأة الأميركية الحديثة في التعليم الثانوي الذي كان يضغط ليعدّها لبيت الزوجية تكون فيه المستهلكة الرقم واحد للمنتجات التي تعيشها كحياة بديلة لها على الشاشة الصغيرة، ورصد لسقوط الأحلام الفكرية الكبرى. ونعرف لاحقا، منذ "الجنس والمدينة" – الذي يبدو وكأنه يعلن انتصار امرأة الاستهلاك على امرأة الفكر، أن ماري ماكارثي كانت في الأحوال كلها محقة في نظرتها التهكمية التي حمّلتها للمجموعة.

مهما يكن من أمر فإن ماري ماكارثي لم تعمّر حتى تشهد الحسم، الذي كان للتأرجح الذي كانت هي مصوّرته لكنها عاشت من السنين ما يكفي لجعلها تشهد تحقّق العديد من توقعاتها، هي التي كانت من بين أولئك الكتاب الذين لم يكفوا منذ أواسط القرن الفائت عن الحديث عن مجتمعات تنهار فيها إنسانية الإنسان وتهجم فيها الهمجية على العالم، وتنتصر الغرائز على الأفكار، والبلاهة على الذكاء والاستهلاك على الإبداع..

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

صحيح أن ماري ماكارثي لم تكن من أنصار بلدان المنظومة الاشتراكية، غير أن سقوط الأنظمة الشيوعية في بلدان تلك المنظومة كان من شأنه، لو عاشت حتى شهدت اكتماله، أن يحزنها لمجرد أنه يترك أميركا وحدها في الميدان، قوة عظمى يتآكلها في الداخل كل ذلك الدود الذي ينخر جسدها، الذي شكل الحديث عنه واحداً من هواجس ماري ماكارثي. ولافت في هذا المجال ان تكون هواجس هذه الكاتبة قد استبدت بها إلى درجة حرمتها من أن تطلق العنان لخيالها الأدبي، فكانت النتيجة لجماً لمَلكة الإبداع لديها لحساب الكتابة عن الظواهر الاجتماعية وتحري جذورها ونتائجها، أو هذا على الأقل ما كان يقوله زوجها الناقد الكبير إدموند ويلسون، الذي يعود إليه الفضل الأول في الكشف عن مواهب ماري ماكارثي، منذ اللحظة التي سجنها فيها داخل غرفة، ذات يوم، وأرغمها على كتابة روايتها الأولى.

تأثيرات شديدة الثقافة

مهما يكن فإن ويلسون كان واحداً فقط من اثنين أثرا في حياة ماري ماكارثي وأفكارها، أما العنصر الثاني فكانت المفكرة هانا آرندت التي أشرنا إليها أعلاه وارتبطت بصداقة عميقة معها، ووجهتها ناحية التفكير في قضايا المجتمع وظواهره، وتكريس جزء كبير من مقدرتها الأدبية للتعبير عما استنتجته من ذلك التفكير.

ماري ماكارثي التي رحلت في عام 1989 كانت قد ولدت قبل ذلك بسبعة وسبعين عاماً، أي في 1912، في مدينة سياتل الأميركية، وتلقت دراسة ثانوية عادية قبل تخرجها في كلية فاسار، التي وصفت الأجواء الدراسية والاجتماعية فيها وصفاً رائعاً في روايتها "المجموعة"، التي ننطلق منها هنا في حديثنا عن هذه الكاتبة والمفكرة الفذة. وبعد تخرجها راحت ماري ماكارثي تدرّس الأدب في الوقت الذي صارت فيه نجمة أساسية من نجوم الحياة الثقافية النيويوركية، حيث تزعمت جماعة الكتاب الليبراليين واليساريين المتحلقين من حول مجلة "بارتيزان ريفيو" بالتنافس مع الحلقات الأخرى المتحلقة من حول مجلة "نيويوركر".

ومن المعروف أن ماري ماكارثي كانت من أكثر أفراد مجموعتها حيوية ونشاطاً. غير أن بدايات انكشاف القمع الستاليني ثم الميثاق السوفياتي - الألماني في ميونيخ، سببت لها خيبة شديدة. بيد أن تلك الخيبة جذرت مواقفها بدلاً عن أن توقعها في وهاد اليأس، ولقد تجلى هذا على وجه الخصوص في توجهاتها الأدبية، إذ بأسلوبها الساخر ولغتها البسيطة عرفت كيف ترسم صوراً ساخرة وجارحة للمجتمع الأميركي، تمكنت من خلالها ومنذ وقت مبكر الكشف عن الكثير من عورات ذلك المجتمع.

غير أن سلاطة قلم ماري ماكارثي لم تطل أعداءها الفكريين فقط، بل طالت حتى أصدقاءها ورفاقها، كما يتجلى في روايتها "المجموعة" التي تبدو أشبه بسيرة ذاتية، وفي قصصها العديدة، لا سيما منها مجموعة "الواحة" حيث تسخر ماري ماكارثي من نضالات يساريي الصالونات حين يتجابهون مع الواقع المر، وتكشف في الوقت نفسه عن همجية عصر السياحة وإفساد البيئة.

لقد نال أدب ماري ماكارثي نجاحاً كبيراً، غير أن أهمية هذه الكاتبة تجلت بشكل خاص من خلال كتابتها المريرة التي جابهت فيها اللحظات الأصعب في التاريخ الأميركي الحديث، خصوصاً لحظات فيتنام وووترغيت، إذ، في هذا المجال، معروف أن الكتاب الذي وضعته ماري ماكارثي ضد الحرب الفيتنامية خلال مرحلة تصاعد العدوان الأميركي على فيتنام، اعتبر أكبر كتاب تحريضي قرأته الشبيبة الأميركية المناهضة لتلك الحرب وتأثرت به.

أما الكتاب الذي وضعته عن فضيحة ووترغيت، فكان الكتاب الذي أطلع الأميركيين أكثر من غيره على خلفيات تلك الفضيحة وأسهم في تعزيز الضغط الشعبي والنفسي الذي أدى بالرئيس ريتشارد نيكسون إلى الاستقالة، علماً بأن الكاتبة ركزت في ذلك الكتاب على فكرة تقول إن أحداث ووترغيت لا يمكن اعتبارها استثناءً في التاريخ الأميركي المعاصر، بل هي جزء أساسي من منظومة الحكم، أما افتضاحها فهو الاستثناء.

 

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة