Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"ليلة الافتتاح" لجون كازافيتش: ضد التيار الهوليوودي

مسرح وشيخوخة وموت، لكن كرامة الفنان قبل كل شيء

مشهد من "ليلة الافتتاح"

هل يمكننا أن نقول في نهاية الأمر أن جون كازافيتش نجح في حياته أكثر مما يستحق ونُسي بعد رحيله أكثر كثيراً مما كان يجب أن يُنسى. قد يقول قائل اليوم إن هذا المخرج الأميركي الطليعي الذي اخترع السينما "المستقلة" الأميركية قبل أن تعثر هذه على اسمها، كان يلعب في غير ملعبه وأنه لم يتمكن من إيصال "ثورته" إلى أكثر من نصفها، بالتالي لا بأس بالتذكير بصدده بما قيل يوماً من أن "الذين يقومون بالثورة حتى نصفها إنما يحفرون قلوبهم بأيديهم". غير أن هذا لا يمنع من تذكّره بين الحين والآخر كواحد من الذين حاولوا، إلى جانب أَوْربَة السينما الأميركية، خلق سينما تُصنع في المنزل وبين الرفاق لتتخذ لاحقاً، سمات الأعمال الكبيرة الخالدة... وينطبق هذا على معظم سينما كازافيتش. لكنه ينطبق جزئيا فقط على واحد من أجمل أفلامه وأقواها: "ليلة الافتتاح" الذي حققه عام 1977 فكان في الوسط بين أكثر قليلا من نصف دزينة من أفلام جعلت للمخرج مكانة على حدة في أوساط النخبة في وقت حافظ فيه على مكانة جماهيرية له كـ... ممثل في أفلام مثل "طفل روز ماري" و"الدزينة القذرة". والطريف أن كازافيتش لم يمثل في معظم أفلامه بل حلق من حوله رفاقاً تواتروا على الأدوار الرائعة التي كان يصوغها لهم وعلى رأسهم الرائعة جينا رولندز التي كانت ملهمته وزوجته وبطلة أفلامه الرئيسية.

أوروبا مقابل أميركا

و"ليلة الافتتاح" هو بالطبع واحد من تلك الأفلام، إضافة إلى أنه يكاد يختلف عنها جميعا في موضوعه ولغته السينمائية وتجديديته وهو ما التقطه الأوروبيون أكثر مما فعل مواطنو السينمائي الأميركيون بكثير. ومن هنا، بقدر ما عومل الفيلم بجفاء وبرودة، نقدياً وجماهيرياً في أميركا، عومل بحماسة نقدياً وجماهيرياً في أوروبا. وقد يكون من المفيد أن نذكر هنا أن قائمة السينمائيين الذين كان لهم هذا المصير (إخفاق أميركي يقابله بل يعارضه نجاح أوروبي) طويلة، وحسبنا أن نذكر هنا مثلي وودي آلن والراحل روبرت آلتمان، وربما جيمس أيفوري أيضاً!... ولنعد إلى "ليلة الافتتاح".

فهذا الفيلم يدور في الأوساط المسرحية النيويوركية. وتروي حكايته – إن كان يمكننا في هذا النوع من الأفلام أن نتحدث عن حكاية – عن الممثلة القديرة ميرت غوردون التي تُجري خارج برودواي عروضاً تجريبية لمسرحية "المرأة الثانية" التي ستفتتح بها عروضاً في برودواي بعد حين. وفي ليلة العرض التجريبي تنقضّ مراهقة معجبة على ميرت فيما كانت تبارح المسرح طالبة منها توقيعاً. وفيما هي تفعل تمر سيارة تصدم الصبية نانسي وتقتلها. وهكذا تبدأ رحلة داخلية في حياة ميرت تحاول خلالها التواصل مع أهل الصبية التي سرعان ما تبدأ بمداهمتها في أحلامها. من الواضح هنا أن مقتل الصبية نانسي، حصل في لحظة كانت فيها ميرت تطرح أسئلة معقدة على نفسها. حول عمرها الذي ينقضي بسرعة. حول النجاح. حول أداء حيوات وهمية على المسرح. حول الحب والموت. وهكذا فيما كانت ميرت في حاجة إلى التركيز يتفجر كل شيء من حولها فتشعر أنها عجوز تدنو من نهايتها.

إنما الأمور بخواتيمها في النهاية

تقرر ميرت وقد وقعت أكثر من أي وقت مضى فريسة الشرب في محاولتها النسيان، أنها ليست قادرة على الاستمرار في عملها المسرحي. وهو أمر يحثها عليه أكثر وأكثر شبح نانسي الذي يلاحقها في كل مكان، ولا تنفع معه توسلات كاتبة المسرحية سارة غود. وتكون النتيجة أن ميرت في تجارب أخيرة تحاول التماشي معها تخفق في التركيز وتنسى حواراتها وتحاول أن ترتجل لكن لا شيء ينجح معها حتى تتلاشى تماماً. ذات لحظة تشعر أن مشكلتها باتت معقدة وواضحة في الوقت نفسه: فهي أن تدمر نانسي وتخرجها من أحلامها وحياتها، كإسقاط لما كانته هي في صباها ولا يزال يلحّ عليها، وإما أن تستسلم لشبح القتيلة فتدمرها هذه. وطبعاً ستسوّى الأمور في النهاية ولكن بعد مشهد كابوسيّ مريع تتمكن فيه ميرت من القضاء على الشبح المطارد وتحديداً قبل فترة ضيقة من ليلة الافتتاح التي ستصل إليها في الثواني الأخيرة، مؤدية دورها بعد ترنّح مرتجلة في حواراتها، مربكة صنّاع المسرحية ولكن أمام تصفيق الجمهور المتحمس وإعجابه الكبير!

لقد تمكن كازافيتش في هذا الفيلم "المسرحي" من تقديم عمل كان من الواضح فيه أنه يكاد يكون عملاً ذاتياً، يستعيد فيه وإن بشكل أكثر حداثة فيلماً لجوزف مانكفيتش كان يقول دائما أنه "مدرسته السينمائية الحقيقية" وهو "كل شيء عن إيف"، واللافت أن المخرج الإسباني بيدرو المودافار سيقول أيضاً بعد سنوات إن "كل شيء عن إيف" كان منطلقه لتحقيق رائعته "كل شيء عن أمي"، متناسياً أن المشهد الافتتاحي لهذا الفيلم يتطابق مع المشهد الافتتاحي لـ..."ليلة الافتتاح" ما يخلق قرابة مدهشة بين الأفلام الثلاثة.

وفي عودة هنا إلى جون كازافيتش لا بد أن نذكر أن ولعه بالسينما وتوقه إلى التجديد فيها، على الضد من أية شعبوية فنية قاتلة كان هو ما يدفعه بين الحين والآخر للعب أدوار جيدة أو تافهة على الشاشتين الكبيرة والصـغيرة، ليتمكن من تمويل أفلامه بنفسه، هو الذي سار في توجهه الإبداعي ضـد "الماكينة" الهوليوودية فتجاهلته، مما اضطره لأن يظل طوال حياته الفنية هامشياً، أي حراً طليقاً متفلتاً من قيود عاصـمة السينما وأساطينها.

هامشيّا مرة، هامشيّا إلى الأبد

ولكن إذا كان روبرت آلتمان قد عرف كيف يسخّر هامشيته لغزو هوليوود في عقر دارها، ووودي آلن لفضحها، فإن كازافيتش لم يبال حتى بمثل هذا الغزو. بدأ هامشياً وظل هامشياً لسبب بسيط جداً وهو أنه كان من بين قلة من مبدعي الفن السابع الأميركيين أخذت فن السينما على محمل الجدية. فكازافيتش كان يحب السينما بوصفها فناً وإبداعاً وليس بوصفها صناعة ومشاريع كبرى. وعلى هذا النحو كنا نراه، كلما تمكن من أن يجمع بضعة آلاف من الدولارات، يسارع إلى "التورط" في إنتاج فيلم يحققه على طريقة الحرفيين الذين يعملون في نطاق العمل الحرفي العائلي: دائماً بالامكانات البسيطة نفسها، ودائماً مع المجموعة من الممثلين والتقنيين إياها، ودائماً يكون المشروع موجهاً إلى الجمهور ذاته: جمهور نخبوي مثقف يحب أن يرى فيلماً بسيطاً في شكله، يعبّر عن الحب والصداقة ويتساءل عن موقع الانسان والعواطف في هذا العصر.

من دون صخب كثير، وبقدر كبير من الحياة وقدر أكبر من العواطف، كان جون كازافيتش يقدم أفلامه، من دون أن يدرك، وهو يصنعها منكباً عليها يؤلفها في بيته ويصورها مع زوجته جينا رولاندز ومع رفاقه مثل بيتر فالك وبن غازارا، أنها ستصبح ذات يوم من الكلاسيكيات، ويصبح لها تاريخ ومؤرخون ومكانة في مسار الفن.

لكنه كان، في الوقت نفسه، يعرف أنه قدّم، عبر أفلام مثل "ظـلال" الذي تناول منذ 1959 مسألة التمييز العنصري في الولايات المتحدة، و"وجوه" (1968) الذي اشتغل عليه لسنوات طويلة وصولاً إلى "ليلة الافتتاح" وما بعده - وأحيانا بمساعدة استوديوهات رضيت بأن تغامر معه، ولكن من دون أن تجبره على تقديم تنازلات -، كان يعرف أنه قدّم درساً ثميناً في الكيفية التي يمكن بها لفنان أصيل أن يحافظ على كرامة فنه وسط دوامة رأسمال يطحن الفن والكرامة في آن معاً. صحيح أن جون كازافيتش قد عانى كثيراً (من المعروف أن معاناته هذه وتعبه هما اللذان قتلاه باكراً وهو بالكاد بلغ الستين من عمره، وكان لا يزال يحمل الكثير من المشاريع والأحلام السينمائية)، وصحيح أنه رضي بالتمثيل في أفلام أو مسلسلات كان فنه السينمائي كله، في الأصل، تنديداً بها، لكنه عرف بفضل هذا كله كيف يسبغ على الفن السينمائي الأميركي طابعاً إنسانياً غالباً ما افتقر إليه هذا الفن.

المزيد من ثقافة