من المجتمعات البدائیة إلى المدن فالدول

مر العالم بنظم حكم عديدة كان القاسم المشترك بينها غريزة البقاء التي تدفع البشر إلى التكتل في مجتمعات صغيرة وكبيرة يحفزها التنافس على الموارد المحدودة من حيوانات وأراضٍ وثروات.

في المجتمعات البدائية كان الإنسان يقضي وقته سعياً وراء قوته، يعيش في مجموعات صغيرة غالباً ما تتنقل جغرافياً بحثاً عن المأكل والمشرب. فامتازت مجتمعات الصيد البدائية بتضاؤل الفوارق بين أفرادها، وحكمتها قيم الملكية الجماعية أو المشتركة والتضامن بوجه الأعداء. ومع ظهور الزراعة بدأت القرى والتجمعات السكنية بالظهور مع اعتماد الإنسان على زراعة المحاصيل.

من حيث السلطة، لم تعرف هذه التجمعات والقبائل الملكية الخاصة ولا المحاكم ولا السلطة المركزية، بل كان الأفراد فيها يديرون شؤونهم وفق الأعراف والتقاليد، وكان القرار يتخذ بالإجماع من قبل كبار السن والأوفر خبرة أو الأفراد ذوي المهارات المفيدة كالصيد، أو من قبل حاكم للقبيلة تكون كلمته مطاعة.

ومع تطور المجتمعات البشرية والنمو السكاني وتعلم الإنسان حرفاً جديدة، ازدادت الحاجة إلى نظم حكم أكثر رسمية لضمان استقرار المجتمع، فنشأت "الدولة المدينة" التي تميزت بكونها كيانات مستقلة ذات حكومات وقوانين خاصة.

ملك السومري المتوج

ملك السومري المتوج

بين الألفية الرابعة والثالثة قبل الميلاد، ظهرت المدن السومرية في بلاد ما بين النهرين وكانت من أوائل دول المدن والمراكز الحضرية في التاريخ، متميزة بطرزها المعمارية الفريدة وتنظيمها المجتمعي المتميز الذي عرف حتى بناء جيش قوي.

أثينا

أثينا

وفي القرن الثامن قبل الميلاد، أسست أيضاً مدن داخل اليونان، من أشهرها أثينا التي عرفت كأول ديمقراطية في التاريخ واضعة أسس التقدم للحضارة الغربية.

وبذلك عكست دول المدن التحول من مجتمعات صغيرة إلى مجتمعات أكبر وأشد تعقيداً تحكمها مؤسسات ونظم سياسية واقتصادية مميزة، ليبدأ الإنسان بذلك الخضوع لقوانين وسلطات أعلى منه تؤثر في مجريات حياته اليومية.

وعلى رغم غياب الدولة في العصور القديمة والوسطى بمفهومها الحديث الذي نعرفه اليوم، فإن العالم شهد في تلك الحقب انتشاراً لأنظمة حكم عدة، بما فيها الممالك والإمبراطوريات التي تحاربت وتحالفت وأبرمت المعاهدات، لتعرف شعوب الأرض منذ القدم أنظمة لإدارة العلاقات في ما بينها.

الإمبراطوريات

على مر التاريخ، عرف العالم إمبراطوريات امتد نفوذها عبر قارات الأرض المختلفة وارتبط تاريخ بعضها بالإستعمار. إليكم أبرز الإمبراطوريات التي حكمت العالم لمئات السنين

اتفاقات ویستفالیا

إمبراطوريات كثيرة نشأت واندثرت عبر مئات السنين، حتى أصبحت ظاهرة الحكم هذه مجرد ذكرى من التاريخ، فالنظام الدولي الذي نعرفه اليوم يقوم على العلاقات بين الدول السيدة والمستقلة وهو نظام لم ينشأ سوى مع اتفاقات ويستفاليا التي أنهت حرب الـ30 عاماً (1618-1648) بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا.

ومع أن اتفاقات الصلح هذه التي أبرمت في مدينة ويستفاليا الألمانية أثرت بشكل خاص في أوروبا الغربية والوسطى، إلا أن آثارها طاولت العالم أجمع، إذ كان لها الفضل في إرساء أبرز مبادئ النظام العالمي القائم على مفهوم الدولة القومية وسيادتها على كامل أراضيها، مع حق كل دولة في تبني قوانينها الخاصة وتوجهها الديني.

اتفاقية ويستفاليا

اتفاقية ويستفاليا

وتعتبر اتفاقات ويستفاليا الانطلاقة الفعلية لمنظومة الدول الحديثة في أوروبا، وذلك لدورها في إنهاء حرب لم تكن مجرد صراع بين مذهبين دينيين، وإنما صراع دولي بين الإمبراطورية الرومانية والدول القوية ذات السيادة، مثل فرنسا التي سعت إلى ضمان حصولها على حدود استراتيجية ودفاعية.

وفيما قلصت تلك الاتفاقات سلطة الإمبراطورية الرومانية مقابل تعزيز صلاحيات الدول القومية اندلعت انتفاضات وطالبت شعوب بإقامة كيانات سياسية قومية خاصة بها، لتظهر دول جديدة اعترف باستقلالها وسيادتها.

المنظمات الأممیة

إرساء اتفاقات ويستفاليا مبادئ الدولة الحديثة القائمة على سيادة كل منها على أراضيها لم يضع حداً للمنافسة بين هذه الكيانات، بل استمرت الصراعات في إطار نظام دولي متعدد الأقطاب، حتى بلغت ذروتها في اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، مما خلف ملايين القتلى والجرحى على مدى أربع سنوات.

كانت الحرب بمثابة جرس إنذار للعالم الذي سارع إلى إنشاء عصبة الأمم في يناير (كانون الثاني) 1920 بهدف تعزيز التعاون الدولي ومنع الحروب المستقبلية من خلال الدبلوماسية. وبذلك، أسست منظمة عصبة الأمم في ظل اعتقاد واسع بالحاجة إلى نظام جديد يحكم العلاقات الدولية ويمنع الصراعات.

تمثلت أهداف العصبة في منع اندلاع الحروب عبر ضمان الأمن المشترك بين الدول، والحد من انتشار الأسلحة، وتسوية المنازعات الدولية عبر المفاوضات والتحكيم الدولي، وفق ما ورد في ميثاقها.

ومع ذلك، كانت فعالية العصبة محدودة بسبب عدم انضمام القوى العظمى إليها، وأبرزها الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، مما أضعف قدرتها على تنفيذ قراراتها. وإثر ذلك فشلت المنظمة في تحقيق أهدافها وتوحيد موقف أعضائها تجاه بعض الأزمات، مثل الغزو الإيطالي لإثيوبيا عام 1935.

وفي أواخر عام 1939 اندلعت الحرب العالمية الثانية لتكون القشة التي قصمت ظهر البعير. فبعد فشل العصبة في تجنيب العالم تلك الحرب وصعود الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي كقوتين عظميين طويت صفحة "العصبة" لتفتح صفحة "الأمم المتحدة" عام 1945. فنشأت المنظمة الأممية الجديدة بميثاق أعاد تأكيد مبادئ سيادة الدول وسلامة أراضيها التي أرستها اتفاقات ويستفاليا، مع الاعتراف بالحاجة إلى العمل المشترك للحفاظ على السلم والأمن الدوليين.

وعلى عكس عصبة الأمم كانت الأمم المتحدة أكثر استيعاباً وشمولاً، وزاد من فعاليتها انضمام الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي إلى مقاعدها، لتنطلق في العمل مع 51 دولة مؤسسة. وحتى اليوم، ما زالت هذه المنظمة تظلل العمل الأممي وترعى العلاقات في نظام دولي لا ينفك أقطابه عن المنافسة والصراع.

الأنظمة الدولیة

النظام الدولي الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية يوصف بأنه ثنائي القطب نظراً إلى هيمنة الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي عليه وتنافسهما على النفوذ والسلطة وصراعهما المحموم للتفوق في سباق التسلح.  غير أن هذا النظام لم يدم طويلاً قبل أن ينتهي مع انهيار جدار برلين وسقوط الاتحاد السوفياتي، لينتقل العالم إلى الأحادية القطبية تحت هيمنة الولايات المتحدة.

القطبية مصطلح يصف توزيع القوة بين أطراف النظام الدولي:

يختلف الباحثون أي نظام هو الأفضل للعالم، فالمنظران السياسيان كينيث والتز وجون ميرشايمر يجادلان بأن القطبية الثنائية تولد استقراراً أكبر من غيرها، في حين يدافع آخرون عن النظامين أحادي القطب ومتعدد الأقطاب.

نقاد أحادية القطب يحذرون من أن غياب قوة تتحدى الدولة التي تتمتع بنفوذ مطلق قد يؤدي إلى إساءة الأخيرة استخدام قوتها على الصعيد الدولي، وهو ما قد يؤدي إلى إضعافها في نهاية المطاف. ويستشهد بعض هؤلاء بوضع أميركا بعد نهاية الحرب الباردة حين سيطرت على النظام الدولي منفردة، إذ دخلت في حروب شتى من أفغانستان إلى العراق وما بينهما.

ولذلك، يحذر والتز من القطبية الأحادية قائلاً إن "القوة غير المتوازنة تترك الدول الضعيفة تشعر بعدم الارتياح وتعطيها سبباً لتقوية مواقفها" أمام القوة المهيمنة، منادياً بالقطبية الثنائية التي تضمن توزيع القوة بالتساوي على قطبين.

إجتماع وفاق أوروبا

إجتماع وفاق أوروبا

في الأثناء، يدعو آخرون إلى نظام متعدد الأقطاب يتم فيه توزيع القوة بين لاعبين أو أقطاب رئيسة متعددة، كذلك الذي شهده العالم بعد "وفاق أوروبا" بعد الحروب النابليونية في أوائل القرن التاسع عشر، عندما سيطرت القوى العظمى الخمس في أوروبا على النظام الدولي، وهي روسيا والنمسا وبروسيا وفرنسا والمملكة المتحدة، إذ عملت هذه القوى معاً للحفاظ على توازن القوة في القارة العجوز ومنع أي جهة واحدة من الهيمنة عليها.

ويقول مناصرو النظام متعدد الأقطاب إنه أكثر استقراراً من غيره لأن القوى العظمى يمكن أن تكتسب نفوذها من خلال التحالفات والحروب الصغيرة التي لا تتحدى القوى الأخرى بشكل مباشر، وهو أمر غير ممكن في الأنظمة ثنائية القطب بحسب منظري الواقعية السياسية.

مستقبل النظام الدولي

على رغم الاختلاف السائد حول إذا ما كان النظام الدولي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي أحادي القطب تحت سيطرة الولايات المتحدة أو بداية لمرحلة انتقالية، تعتبر أستاذة العلوم السياسية بجامعة فوردهام في حديث لـ"اندبندنت عربية" كيسي ماكنيل أن النظام الدولي بعد الحرب الباردة كان نظاماً أحادي القطب هيمنت خلاله الولايات المتحدة ذات القوة الاقتصادية الكبيرة على العالم من خلال المؤسسات المالية الدولية ومنظمة التجارة العالمية، والقوة العسكرية بشبكة واسعة من القواعد والشراكات الأمنية.

ومع ذلك، تقول ماكنيل إن النظام الدولي يسير نحو تعددية الأقطاب بشكل متزايد، إذ لم تعد المؤسسات المالية التي تهيمن عليها الولايات المتحدة هي المصدر الوحيد لرأس المال للدول المثقلة بالديون، كما أن هناك مؤشرات لقيام الدول بتنويع شراكاتها الأمنية والعسكرية بعيداً من الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، كما يحدث في أفريقيا مثلاً.

وعلى رغم أن ماكنيل تشير إلى أن ظهور نظام دولي متعدد الأقطاب قد يؤدي إلى حلول أكثر ديمقراطية للمشكلات العالمية مثل أزمة المناخ، فإنها تحذر من صراع دولي أكبر إذا تعاملت القوى مع السياسة العالمية باعتبارها لعبة، تكون مكاسب طرف فيها خسارة للآخر، كما يتضح في خطاب القادة الأميركيين تجاه الصين على سبيل المثال.

كتابة
عيسى نهاري

تحرير و إعداد
إيليانا داغر

التنفيذ والغرافيك
مريم الرويغ

الإشراف على التنفيذ
نوف الحربي

رئيس التحرير
عضوان الأحمري