الجنيه المصري

التعويم هرباً من الغرق

يجلس محمود عبدالتواب وأمامه رزنامة تحمل أيام الشهر كاملةً وتنبئ بتبقي القليل قبل حلول موعد تلقي راتبه الجديد، بعدما شُمل كغيره من ستة ملايين موظف في الإدارة العامة بمصر بزيادة ثالثة أقرها الرئيس عبدالفتاح السيسي ضمن حزمة اجتماعية تهدف إلى تخفيف أعباء المعيشة عن المواطنين في ظل أزمة اقتصادية خانقة.

وبعد عامين اتسما بغلاء شرس وفقدان السلع والأدوية من الأسواق، يترقب محمود قبض راتبه ليختبر قدرته الشرائية بعدما هوى الجنيه المصري صوب 50 للدولار الواحد إثر تحرير سعر الصرف.

فهذا الراتب الذي ازداد عديد أوراقه النقدية من نحو ستة آلاف جنيه قبل نحو عامين إلى ما يزيد قليلاً عن تسعة آلاف جنيه، فقد الكثير من قيمته الفعلية التي تراجعت من نحو 400 دولار إلى نحو 185 دولاراً، مع انهيار سعر الصرف من 15 جنيهاً للدولار في مارس (آذار) 2022 إلى نحو 50 جنيهاً اليوم.

هذا الموظف الثلاثيني الذي يعيل أسرة من زوجة بلا عمل وثلاثة أبناء أكبرهم في الصف الثالث الابتدائي، يأمل في أن تمهله الأسعار الملتهبة وقتاً أطول قبل نفاد الراتب وتلهّف حلول الشهر التالي. وهو لا يعرف من أين يبدأ في الكلام عن معاناة العامين الماضيين، أمن راتب لا يكفي سد رمق أسرته ومنح البطون شعور الشبع، أم من غلاء فاحش وندرة واختفاء السلع والبضائع؟

وبوجه اكتسى بغبار يوم عاصف، يقول محمود لـ"اندبندنت عربية"، "أسعار السلع تضاعفت مرتين وثلاث، لا يتعلق الأمر بسلعة بعينها، بل بكل شيء، طعام وشراب وتنقلات وخدمات ومصروفات متفرقة ومفاجآت ومناسبات وأعطال لها كلفتها، وقائمة مطالب أبنائي الثلاثة تطول ولا تنتهي، كما لو أن أباهم يجلس على تل من الأموال، لا يعون شيئاً مما نحن فيه"، مضيفاً أن زوجته اضطرت سابقاً لتأجيل رسالة شهادة الدكتوراة لبعض الوقت لأنها مكلفة وهي لا تعمل.

قبل حرب روسيا وأوكرانيا وما لحقها من اشتعال في الأسعار بسبب صراع البلدين الموردين للحبوب ومكونات الأعلاف، كان سعر الكيلوغرام الواحد من الدجاج في مصر 40 جنيهاً (80 سنتاً)، ثم ارتفع وصولاً إلى 130 جنيهاً (2.64 دولار). وفي حين أن متوسط وزن الدجاجة في البلاد هو 2.5 كيلوغرام، فإن كلفة الدجاجة الواحدة اليوم أصبحت نحو 6.6 دولاراً، من دون احتساب كلفة الرز والخضار وغاز الطهي. وهذا السعر لوجبة الغداء فقط من دون كلفتي الإفطار والعشاء، وفي مجملهما يكلفان أسرة محمود في المتوسط 100 جنيه (2.03 دولار) يومياً. ما يعني أن فاتورة إنفاق محمود على المأكل يتجاوز حدود راتبه الذي لا يكفي لولا ريع بضع قراريط من الأرض الزراعية ورثها عن أبيه، وهو ما لا يتوفر بالضرورة لغيره من المصريين. غير أن الرجل يعلل النفس مردداً قول الشاعر، "ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل".  

5 قرارات لتعويم الجنيه المصري

نوفمبر 2016

الدولار يرتفع من 8 جنيهات إلى 16 جنيهاً

مارس 2022

الدولار يرتفع من 16 جنيهاً إلى 19.70 جنيهاً

أكتوبر 2022

الدولار يرتفع من 19.70 جنيهاً إلى 24.70 جنيهاً

يناير 2023

الدولار يرتفع من 24.70 جنيهاً إلى 30.93 جنيهاً

مارس 2024

الدولار يرتفع من 30.93 جنيهاً إلى 47.90 جنيهاً

"كورونا" وحرب أوكرانيا

حال محمود هو حال الغالبية العظمى من المصريين منذ أواخر عام 2019، حين ظهر فيروس "كورونا" وتحوّل إلى جائحة دفعت الدول إلى إغلاق حدودها وحجر سكانها حتى بات معظم سكان الأرض في الحجر منقطعين عن كل ما هو خارج جدران بيوتهم.

هذه الجائحة أنهكت منشآت مصر الطبية التي سرعان ما تحولت إلى مستشفيات للعزل، وأثقلت كاهل الخزينة العامة بنفقات إضافية لقطاع الصحة طوال عامين، وطالت براثنها قطاع السياحة الذي تأثر على نحو كبير من بين سائر قطاعات الاقتصاد الأخرى في البلاد، فتراجع عدد السياح من 13 مليون في عام 2019 إلى 3.7 مليون سائح فقط في 2020. وما لبس هذا القطاع الحيوي في مصر أن استعاد بعض تعافيه تدريجاً وصولاً إلى 11.7 مليون سائح عام 2022، حتى مُني بانتكاسة جديدة بفعل حرب روسيا وأوكرانيا، الجنسيتين اللتين تشكلان المكونين الأكبر من السياح في مصر.

ومنذ الربع الأول في عام 2022، تجلت مظاهر الضعف في الاقتصاد المصري، إذ غادرت البلاد 25 مليار دولار من الأموال الساخنة بفعل الاضطرابات العالمية، وتشديد البنوك المركزية سياساتها ورفعها أسعار الفائدة في مواجهة التضخم الناشئ عقب حقبة "كورونا". وإثر هذا الانكشاف، اضطرت القاهرة التي تعاني اختلالاً مزمناً في الميزان التجاري نتيجة ارتفاع فاتورة الواردات مقابل الصادرات فضلاً عن الديون الخارجية المقلقة، إلى خفض قيمة الجنيه المصري. وفي ديسمبر (كانون الأول) 2022، طلبت الحكومة قرضاً من صندوق النقد الدولي بنحو ثلاثة مليارات دولار، لكنها لم تتسلمها لتلكؤها في تطبيق شروط الصندوق، وأولها تحرير سعر الصرف في حين نشطت السوق السوداء للصرف، إثر عجز البنوك عن توفير الدولار الأميركي للتجار والمستوردين، وارتفع سعر صرف الدولار إلى مستويات قياسية بلغت 78 جنيهاً في يناير (كانون الثاني) 2024. ولم يهدأ المنحى الهبوطي للجنيه إلا بفعل تردد أنباء عن إبرام القاهرة صفقة استثمارية كبرى، تكشفت في ما بعد بإعلان مصر توقيع اتفاق مع الإمارات لتنفيذ مشروع تطوير رأس الحكمة، وهو اتفاق تحصل بموجبه القاهرة على 35 مليار دولار ما بين ودائع لدى المصرف المركزي المصري وسيولة تضخ خلال شهرين من التوقيع.

وخلال عامي الأزمة، ارتفع التضخم السنوي في البلاد على نحو مرهق، من ثمانية في المئة في يناير 2022، وصولاً إلى الذروة في فبراير (شباط) 2023 عند مستوى 40.3 في المئة. وظل معدل التضخم قريباً من هذه المستويات على رغم اتخاذ المصرف المركزي والبنوك الحكومية خطوات لتحفيز الادخار وسحب السيولة الفائضة من السوق عبر شهادات ادخارية بعوائد مرتفعة، رفعت معها لجنة السياسة النقدية أسعار الفائدة منذ مارس 2022 بنحو 1900 نقطة أساس.

معدلات التضخم السنوي في مصر

أسعار تكوي

هذه الأرقام والمعدلات ليست حبراً على ورق، بل تضخم يرفع سعر السلع والخدمات ويكوي جيوب المصريين ويثقل حملهم، كأم أحمد التي تعيل ولدين وزوج مريض مقعد لا يقوى على العمل.

تعمل أم أحمد مشرفة عاملات نظافة في إحدى شركات القطاع الخاص مقابل ألفي جنيه (نحو 40.66 دولاراً)، تشكو بهم وطأة العوز وقلة الحيلة، وإن عاونتها الدولة بدعم عيني سلعي قيمته 200 جنيه (4.07 دولار) شهرياً، من بين 65 مليون مصري يتلقون الدعم.

وبينما تقطن السيدة الأربعينية في ريف الجيزة، فإن كلفة الانتقال إلى العمل في منطقة المهندسين تضع عبئاً آخر على نفقاتها، وإن لم يضاهِ ذلك مصاريف علاج زوجها المريض، وقد عانت جداً من ارتفاع كلفة طبابته على رغم استعانتها بخدمات الدولة المدعومة، إذ خضع قبل سنوات لعملية جراحية في إحدى المستشفيات الحكومية.

وكشأن ربات البيوت من غير ذوات السعة، أحكمت أم أحمد الإنفاق واقتصدت فيما لم يألف نجليها هذا التدقيق في غرامات اللحم من قبل. على رأس كل شهر، يحين موعد سداد ما اقتُرض من اللحام والبقال وما سواهما، وفق ما تروي، ولا شيء يكفي لتتمة الشهر لولا قضاء باقي أيامه بأقل القليل. فاللحوم صارت ترفاً على حد قولها، "الكيلوغرام البلدي بـ350 جنيه (7.12 دولاراً)، وراتبي لن يكفي لشراء ستة كيلوغرامات طوال الشهر، فيما كنت أشتري الكيلوغرام الواحد قبل عامين بـ150 جنيهاً (3.05 دولار). حالياً نشتري اللحوم البرازيلية بسعر 220 جنيه (4.47 دولار)، ولا أشتري أكثر من كيلوغرمين شهرياً، أقسمها على أربع وجبات، طبخة واحدة أسبوعياً. والأمر لا يقتصر على اللحوم، بل الأسماك والدواجن كذلك، حتى أن العدس الذي كان يشار إليه باعتباره أقل الوجبات سعراً صار بـ100 جنيه (2.03 دولار)".

للحد من التضخم، تلجأ الدول إلى رفع أسعار الفائدة
هكذا تطورت أسعار الفائدة على الإيداع والإقراض في مصر

تقاذف المسؤولية

الغلاء في مصر بلا أب، مفقود النسب، يتقاذفه التجار والمنتجون والموردون والسماسرة والمستوردون، فيما معاناة الأسر تزداد في وقت غالت الشركات في أسعار منتجاتها بدعوى ارتفاع ونقص الخامات، على رغم التفاخر بالأرباح المحققة نهاية كل عام، في إشارة إلى ارتفاع الهوامش الربحية المقدرة بما يتجاوز حتى معدلات التضخم الرسمية المسجلة، إذ يقدر مراقبون أرباح الشركات بما يتجاوز 100 في المئة في سوق استعصت على التراجع وعرفت أشكالاً من تراشق المسؤولية عن الغلاء بين المنتجين والتجار، في غياب الرقابة.

يقول عضو شعبة المواد الغذائية في الغرف التجارية حازم المنوفي، لـ"اندبندنت عربية"، إن للمنتجين الدور الأكبر في مسؤولية ارتفاع أسعار السلع، موضحاً أن سوق المواد الغذائية غير منظمة وفيها أكثر من سعر: سعر في الريف وآخر في الحضر، سعر في السلاسل التجارية الكبرى وآخر لدى صغار تجار التجزئة، وفق هوامش ربحية مغالى بها وجشع متضخم إلى مستويات فجة، حسب قوله. في المقابل، يدافع رئيس شعبة السكر بغرفة الصناعات الغذائية في اتحاد الصناعات حسن الفندي، عن المنتجين في الأزمة الأخيرة لاختفاء السكر من الأسواق، ويرى أن المُنتِج تضرّر كما المستهلك تماماً، إذ لا ينفعه ارتفاع السعر من دون مبيعات قوية، وهو أمر لا يتحقق مع ضعف القدرة الشرائية للمستهلكين.

مسيرة خفض التصنيف الائتماني

وسط التخبط وفقدان النقد الأجنبي وشح موارد البلاد من الدولار تزامناً مع ارتفاع مديونية الدولة للخارج، خفضت وكالات التصنيف الائتماني العالمية، "ستاندرد آند بورز" و"فيتش" و"موديز"، تصنيف مصر في أكتوبر (تشرين الأول) ونوفمبر (تشرين الثاني) 2023، ما أدى إلى رفع كلفة التمويل الخارجي وصعّب مهمة الوصول إلى أسواق الدين. فلجأت الحكومة المصرية إلى التفاوض مجدداً مع صندوق النقد الدولي لزيادة قيمة القرض ثلاثة أضعاف، نظراً للظروف الإقليمية المحيطة مع اندلاع حرب غزة في السابع من أكتوبر 2023، وتعثر الملاحة في قناة السويس وتدني إيراداتها بنحو النصف، إثر استهداف ميليشيات الحوثيين السفن المارة في البحر الأحمر بدعوى مساندة المقاومة الفلسطينية، ما دفع شركات كثيرة إلى تغيير ممرات عبور سفنها في المنطقة.

خفض تصنيف مصر الائتماني

فبراير

وكالة "موديز" تخفض تصنيف من "بي 2" إلى "بي 3".

- أبريل 2023: وكالة "ستاندرد آند بورز" تخفض النظرة المستقبلية من مستقرة إلى سلبية.

- مايو 2023:  وكالة "فيتش" تخفض التصنيف من "بي +" إلى "بي"، مع تحويل نظرتها المستقبلية إلى سلبية.

- أكتوبر 2023: وكالة "موديز" تخفض التصنيف من "بي 3" إلى "سي إيه إيه 1".

- أكتوبر 2023: وكالة "ستاندرد آند بورز" تخفض التصنيف من "بي" إلى "بي سالب".

- نوفمبر 2023: وكالة "فيتش" تخفض التصيف من "بي" إلى "بي سالب".

- يناير 2024: وكالة "موديز إنفستورز سرفيسز" تخفض نظرتها المستقبلية لتصنيف الإصدارات الحكومية المصرية من "مستقرة" إلى "سلبية".

- مارس 2024: وكالة "موديز" تعدل نظرتها المستقبلية لتصنيف مصر إلى "إيجابية".

المصدر: وكالات التصنيف الائتماني

حلم التقاعد

في خضم أزمة مماثلة، يصبح التقاعد حلماً بعيد المنال، كحلم العم صبري، صاحب الوجه المخطوط بتجاعيد الزمن وقسوته وتجاربه. خلف مقود سيارة الأجرة، يجلس العم وقد شارف من العمر عقده السادس، لكن الحاجة تقسو ولا يُقسى عليها. ويقول لـ"اندبندنت عربية"، "هل نصبر على طعام أو دواء، لا نستطيع، سنشتري، واليوم لم تعد الفلوس على كثرتها ذات قيمة، والأسعار في السماء، وكل يوم بسعر مختلف، كان الله بعون الناس... الزبائن ليسوا على كثرتهم السابقة، ربما لتوجّههم نحو وسائل المواصلات العامة والجماعية، أملاً في خفض الإنفاق، فمتوسط الرحلة داخل منطقة مثل المهندسين مع حساب الزحام وإشارات المرور، قد يصل إلى 60 و70 جنيهاً (1.22 - 1.43 دولاراً)، وهذه تكلفة التنقل في منطقة واحدة وليس من حي إلى حي، أو من المهندسين إلى شبرا أو المعادي".

وبوجه متعب ونبرة صوت لا تخلو من التبرم، يشكو العم صبري كلفة صيانة وإصلاح أعطال سيارته المتكررة، "آخر مرة أنفقت حوالى 3500 جنيه (71.43 دولاراً) عند الميكانيكي، وتغيير الزيت أصبح مكلفاً بعدما تضاعف سعره مرتين وثلاث، والسيارة قديمة لو فتحت فمها لن أستطيع أن أسد ذلك. لكن ماذا أفعل، هل أمكث في المنزل من دون عمل، هل سيرحمنا الفقر والجوع؟ إطلاقاً، لن يحدث ذلك".

سعر الدولار في السوق السوداء المصرية

أسباب الأزمة

لا بدّ أنكم تسألون أنفسكم ما الذي أوصل الاقتصاد المصري إلى هذه الأزمة وإلى الشح في النقد الأجنبي؟ حسب وزير التنمية الإدارية ورئيس المنطقة الاقتصادية لقناة السويس السابق أحمد درويش، الأزمة هي نتاج اختلال الإيرادات والمصروفات، ويوضح لـ"اندبندنت عربية" أن إيرادات النقد الأجنبي من مصادرها الخمس: الصادرات، وتحويلات المصريين في الخارج، والسياحة، والاستثمار الأجنبي المباشر، وعائدات قناة السويس، لا تكفي لسداد تكاليف الاستيراد والديون والفوائد، وهنا تتجلى الأزمة: إنفاق كبير وعائدات أقل، وستظل الأمور على حالها ما لم تتجه الدولة إلى تعزيز الصناعة وزيادة التصدير.

الإنفاق الحكومي لعب أيضاً دوراً رئيساً في مسببات الأزمة، فقبيل 2022، اندفعت مصر صوب تنفيذ عدد كبير من المشروعات القومية المكلفة في البنية التحتية للبلاد بمختلف القطاعات، في حين يقول درويش إن كثيراً من هذه المشروعات افتقدت للنماذج المالية المثالية، إذ كان بمقدور الحكومة تنفيذها على مراحل، وعبر نظام الشراكة مع القطاع الخاص أو عبر مستثمرين أجانب، بدلاً من تحمل الدولة كلفتها كاملة.

وبفعل جائحة "كورونا" والحرب الأوكرانية والتداعيات اللاحقة، هدأت وتيرة تنفيذ هذه المشروعات حتى قررت الحكومة المصرية تجميد تلك التي تحتاج استثمارات بالدولار. على رغم ذلك لم تسلم السياسات الاقتصادية للبلاد من أوجه النقد، لاسيما لناحية توغل الدولة في الأنشطة الاقتصادية ومزاحمة القطاع الخاص، لذا بدأت الحكومة تتخارج من بعض القطاعات الاقتصادية لصالح المستثمرين المحليين والأجانب. هذه الخطوة لاقت تأييد المحلل الاقتصادي هاني توفيق، الذي أوضح لـ"اندبندنت عربية" أن دور القطاع الخاص في البلاد انكمش بفعل توغل الدولة في النشاط الاقتصادي خلال السنوات الأخيرة، فتراجع حضوره من 70 في المئة إلى 20 في المئة فقط، وهو أمر كانت له تداعياته السلبية على سمعة البلاد وجاذبيتها كوجهة استثمارية، وهو ما كان يتعين علاجه بانسحاب تدريجي ومنظم من الدولة لصالح القطاع الخاص. لكن هذه الخطوة لم تسلم أيضاً من الجدل، إذ عدّها البعض بيعاً وتفريطاً في الأصول والسيادة.

إنقاذ ما أمكن من المدخرات

بينما انشغلت النخب الاقتصادية في البحث عن جذور أزمة العامين واختلالات الاقتصاد الهيكلية، وسط أحاديث لا تنتهي عن تشوه الدعم وعجز الموازنة وخلل ميزان المدفوعات ومنافسة القطاع الخاص، كان شق من المصريين منغمس في البحث عن طوق نجاة للمدخرات وصون "تحويشة العمر" من الضياع وانتزاعها من بين فكي الأزمة. كيف لا وقد حظي "الحويط" من المصريين بسمعة جيدة، هذا الحاذق الماهر الحذر الذي يحتاط لمكر الدهر ونوائبه، يحسب حساب كل خطاه بدقة، فلا يرفع قدماً حتى يرى موضع الأخرى.

طوال 24 شهراً، اختبر المصريون أشكالاً من التحوط الذي لم يأتِ بنسق واحد، إذ تعددت أشكاله لتشمل الاستثمار في الشهادات الادخارية والأسهم والذهب والعقارات، في ردة فعل طبيعية على نزيف الجنيه المصري، وفق ما يقول المحلل المصرفي وليد عادل لـ"اندبندنت عربية"، مشيراً إلى أن التحوط فعل الأفراد والمؤسسات على حد سواء في ظل غياب حالة اليقين الاقتصادي وشيوع الضبابية.

ويلفت المحلل المصرفي، إلى أن البنوك المصرية عملت على الحيلولة دون تسرب الودائع إلى أوعية ادخارية أخرى، وذلك عبر طرح شهادات ادخارية مرتفعة العائد ومأمونة الأخطار، فيما حقق مكتنزو الذهب أرباحاً خيالية، إذ ينشط المعدن الأصفر في أوقات الأزمات الاقتصادية، ويحظى بجاذبية أكبر من غيره، ولا يتطلب ما تطلبه العقارات من رؤوس أموال كبيرة.

ومن أشكال التحوط، التي يضيف عادل الحديث عنها، ما طرح أخيراً عن بنكي "الأهلي المصري" و"مصر" من شهادات ثلاثية بعائد يصل إلى 30 في المئة في السنة الأولى، وذلك إثر رفع "المركزي المصري" أسعار الفائدة 600 نقطة أساس في مارس 2024. ويبقى الأهم برأيه هو التخلي عن "الدولرة" (اكتناز الدولار) كأحد أشكال التحوط التي سادت طوال عامين، وذلك على خلفية تدني سعر الدولار في السوق السوداء إلى مستويات السعر الرسمي في القطاع المصرفي.

ويؤشر كل ذلك إلى أن ثقة المصريين بالجنيه المصري تضعضعت، فلم يعد مقبولاً الاحتفاظ به على حاله من دون تحوط، إذ لا يستبعد له أن يتراجع أكثر في حال ظلت مسببات الأزمة قائمة من دون حلول جذرية.

 

أمل وحذر

على رغم كل الاضطرابات التي شهدها الاقتصاد المصري أخيراً، ثمة اعتقاد بأن الستارة قد أسدلت على هذا الفصل السيء من تاريخ البلاد، بحسب ما يرى عضو الجمعية المصرية للتشريع والاقتصاد محمد أنيس، وذلك إثر قرارات "المركزي المصري" الأخيرة، المتمثلة في تحرير سعر صرف الجنيه ورفع أسعار الفائدة. غير أن ذلك مرتبط بخطوات إصلاحية على الحكومة المصرية أن تشرع في اتخاذها، كإصلاح اختلالات الاقتصاد وتشوه الدعم والتركيز على التصنيع والتصدير، إذا كانت ترغب في تسوية أزمات الاقتصاد نهائياً وأبداً الفترة المقبلة، بحسب ما يقول أنيس.

أما محمود وصبري وأم أحمد وغيرهم من ملايين المصريين، فيأملون في أن تغير القرارات الحكومية واقعهم إلى الأحسن، ليجدوا في الجنيه مجدداً ما يكفيهم عن العوز والحاجة، لكن من دون أن يبرحوا منطقة الحذر من تكرار سيناريو الأزمة ومعايشة أحداثه مرة أخرى، حال بقاء الاختلالات والتشوهات من دون علاج حاسم ونهائي.

كتابة
محمد مختار

تحرير
إيليانا داغر

التنفيذ والغرافيك
عمر المصري

رئيس التحرير
عضوان الأحمري