"بريق موصوم"
قصة الذهب المصري من التنقيب إلى التهريب

"حينما يظهر حجر المرو، نفاجأ بعصابات مسلحة تهاجمنا ليلاً وتجبرنا على ترك الموقع، وكذلك شركات وهمية تدّعي ملكيتها للمواقع يأتون برفقة أفراد مسلحين ويشهرون أسلحتهم في وجوهنا. تحدث مواجهات وتسقط أرواح وتُرمى جثثهم في أراضي الجبل من دون دفن..."

لم يجد إبراهيم (اسم مستعار)، وهو شاب في العقد الثاني من عمره بديلاً عن خوض تلك المغامرة المحفوفة بالموت، فضيق الحال ومهمة البحث عن لقمة العيش تطاردانه، ولا مناص أمامه سوى العيش بين ثنايا الجبال الشاهقة بمنطقة المثلث الذهبي في صحراء مصر الشرقية بحثاً عن الذهب.

لم يكن ذلك الشاب العشريني ذو الشعر الكثيف المُغطى بالغبار، يتخيل يوماً أنه سيُمسك بين يديه قطعة من الذهب الخالص المستخرج لتوّه من عروق بين شقوق الجبال، ليكون بذلك الطرف الأول في سلسلة تبدأ به، لتمر بمن يصقلون تلك القطعة وصولاً إلى من يهربونها لاحقاً خارج البلاد. وبين حلقات السلسلة، تغلف قطعة الذهب تلك مخاوف شاب كان يحمل في قلبه أحلاماً بيضاء تخشى أن تتلوث يوماً بدمائه حال انهيار الجبل فوق رأسه وهو يبحث عن قوت يومه بمهنة التنقيب عن الذهب.

وعلى مدى ثمانية أشهر، من التواصل والترجل بين تلال المثلث الذهبي (محافظة البحر الأحمر الحدودية جنوب مصر)، بعد تعهد الحفاظ على سرية البيانات وعدم الإفصاح عن الهُويات، تكشف "اندبندنت عربية" في تحقيق استقصائي ما يحدث داخل مناجم الذهب الرسمية وغير الرسمية بصحراء مصر الشرقية، حيث عمليات تهريب للخارج، وتحكّم لأشخاص بعينهم في سوق وتعاملات الذهب، وغش في عياراته بحثاً عن الثراء السريع، مما يهدر ملايين الدولارات على خزانة الدولة.

تنقيب غير شرعي: استكشاف وتفجير وطحن

بدأت رحلة الـ14 ساعة من القاهرة إلى مدينة القصير، حيث انتظرنا حلول منتصف الليل للتحرك إلى مواقع مناجم الذهب التي يسيطر عليها "الدهابة" (وصف يُطلق على من ينقبون عن الذهب).

على مرمى البصر طرق مُظلمة يلفها الخوف من شدة الظلام. وفي هذا العالم تسود قوانين "الدهابة"، إذ تحظر إضاءة مصابيح السيارات رغم الظلمة، فإضاءتها تعني أن خطراً يهدد "الدهابة"، الأمر الذي يُترجم إلى "إخبارية" تصل إلى بقية السيارات حتى تغيّر مسارها.

في الخامسة صباحاً، وبعدما تخطينا أكثر من 90 كيلومتراً من القيادة الشاقة، وصلنا إلى واحد من المواقع المختارة في قلب منطقة المثلث الذهبي، بالقرب من منطقة القصير، (لم نحدد المواقع التي ذهبنا إليها بناءً على طلب الدهابة)، حيث مشاهد خلابة لصخور الجبال المتشابكة، بعدما كادت السيارة أن تنقلب في كل منعطف، بخاصة أننا سلكنا الطريق نحو النقطة الأعلى في الجبل. ومع الدخول في شبكة الطرق الجبلية الوعرة، انقطعت شبكة الهاتف المحمول، فأصبحنا معزولين عن العالم الخارجي.

فجراً، يستيقظ العمال في المنجم، استعداداً لبداية يومهم الشاق. وداخل خيمة متهالكة شيّدوها بأنفسهم من أقمشة ثقيلة لتقيهم شمس النهار الحارقة يتناولون وجبة إفطار فقيرة: كِسرات من الخبز، وعلبة فول، تصل إليهم بشكل أسبوعي، يتبعها كوب من الشاي "الحِبر" الكثيف والخالي من السكر، أو ربما فنجان من القهوة العربية.

على قمة الجبل، توجد معدات ثقيلة ضخمة: بلدوزر يحطّم الصخور، وجرافات تشق طريقها بشدة، وعربات نقل ذات حجم هائل. ومولدات كهرباء تعمل بالطاقة الشمسية، ويمتد الموقع الشاسع ليضم نحو 40 عاملاً.

3 مراحل للتنقيب عن الذهب

استكشاف الموقع والتأكد من وجود عروق الذهب من خلال تتبع "العنج الفرعوني" الذي استخدمه الفراعنة لتحديد مسار عروق الذهب

تحطيم الجبل بالتكسير أو التفجير لاستخراج حجر المرو الذي يحتوي الذهب

  نقل الأحجار وطحنها في طواحين مخصصة لاستخلاص الذهب

يقول إبراهيم (اسم مستعار)، وهو شاب في العقد الثاني من عمره، بينما يجهّز معدات العمل، "الجبل ممكن يقع علينا ونحن نشتغل (نعمل) بسبب التفجير والتكسير، لكن ما عندنا (ليس لدينا) حل غير أن نواجهه. إذا نجونا من هذا الموت يجب أن نتعامل مع مخاطر أخرى".

وحول هذه المخاطر الأخرى، يوضح: "حينما يظهر حجر المرو نفاجأ بعصابات مسلحة تهاجمنا ليلاً، وتجبرنا على ترك الموقع، وكذلك شركات وهمية تدّعي ملكيتها للمواقع يأتون برفقة أفراد مسلحين، ويشهرون أسلحتهم في وجوهنا، مدّعين أن هذه المناجم خاصتهم. هنا تسقط أرواح شباب في مواجهات مع تلك العصابات، بخاصة العمال السودانيون الذين يُقتلون وترمى جثثهم في أراضي الجبل من دون دفن".

"توجد أماكن مملوءة بالذهب لا تعلم الدولة عنها شيئاً تحت سيطرة بعض الأفراد، وتُستغل لصالح شخصيات نعلمها جميعاً، لكننا لا نستطيع الكشف عن أسمائهم تجنباً للوقوع في مشكلات قد تهدد حياتنا. مناجم الذهب يُستخرج منها كميات هائلة، لكنها تختفي في جيوب شخصيات بعينها"، حسب إبراهيم.

وتنص المادة 42 من القانون رقم 145  لسنة 2019 على

على رغم العقوبات التي نص عليها، لم يحدّ القانون أو يمنع عمليات التنقيب غير الشرعية عن الذهب، إذ حصرت "اندبندنت عربية" نحو 43 محضر شرطة خلال الفترة بين عامي 2018 و2023، لأشخاص ضُبطوا وبحوزتهم إما أطنان من حجر المرو الذي يحتوي على الذهب، وإما سبائك ذهبية غير مدموغة بمصلحة الدمغة، وإما كمية من الذهب المهرّب من مصر.

ومنذ عام 2020، نظمت الحكومة المصرية مناقصات عالمية لاستغلال مناطق التنقيب عن الذهب، وفازت 11 شركة بين محلية ودولية بمناقصة عالمية لاستكشاف وتنقيب الذهب، في حين طُرحت مناقصة أخرى العام الماضي لخمس مناطق، وأرجئ موعد الإغلاق 4 مرات متتالية، بسبب الإقبال الضعيف من الشركات العالمية.

مناقصات التنقيب عن الذهب في مصر

سنت وزارة البترول قانوناً جديداً للتعدين لتشجيع التنقيب عن الذهب بنظام الإتاوة والضرائب بدلاً من تقاسم الإنتاج

طرحت مصر مناقصة أولية للتنقيب عن الذهب
ومنحت 82 قطعة استكشاف لـ 11 شركة : 7 شركات عالمية و4 مصرية

فازت 4 شركات بعقود جديدة للتنقيب عن الذهب في الصحراء الشرقية بالمزايدة العالمية الثانية للتنقيب عن المعدن النفيس

أعلنت هيئة الثروة المعدنية عن مزايدة للبحث عن الذهب
بنظام اقتسام الإنــتاج بمــناطق: (فاطيري-البرامية-عتود-
حنجلية و أم عود - حماطة) بالصحراء الشرقية

65 مليون دولار حجم استثمارات الشركات العاملة في التنقيب عن الذهب والمعادن منذ إجراء تعديلات قانون الثروة المعدنية

صراع في الجبل من أجل الذهب

في طريقنا إلى موقع آخر، يبعد عن الأول نحو 80 كيلومتراً، كانت العلامات الغامضة تحاصرنا عند نهاية كل طريق: إطارات سيارات ضخمة محترقة جزئياً، شجرة صغيرة وُضعت وثُبتت بحصى كثيفة، إشارة إلى سرية المنطقة. مع دليل واضح للمدقات (طريق داخلي غير ممهد يسلكه الدهابة في وسط الصحراء، هم فقط من يستطيعون السير فيه) يعبر عن اضطرار المنقبين، في بعض الأحيان، للسير مسافة تصل إلى 20 كيلومتراً في وسط الصحراء الوعرة.

في الموقع الثاني، شقّ "الدهابة" الجبل نحو نهاية "العِرق"، ما يؤشر إلى وجود الذهب على سطح الحجر. وبالحديث مع العاملين أكدوا أنه "موقع فرعوني" اكتشفه الإنجليز ونهبوه. لكن لعدم وجود معدات ثقيلة وحديثة آنذاك فإنهم لم يتمكنوا من الوصول إلى باقي "العروق"، ونحن كسكان أصليين للمنطقة وصلنا إلى باقي "العروق" لمعرفتنا بالطبيعة الجغرافية للمنطقة.

بجوار مغارة يختبئون داخلها في حال الخطر، تحدّث إلينا رجل يدعى الشيخ، في أواخر الأربعينيات من عمره، قائلاً إن هدفهم ليس العمل ضد الدولة، بل إنهم يسعون للتعاون معها بشكل رسمي وتقديم حصتها المستحقة. ومع ذلك، يُشير إلى أن ما يحدث على أرض الواقع هو العكس تماماً، إذ "يتورّط بعض اللصوص لصالح أشخاص ذوي نفوذ، ويتصارعون مع المنقبين أو يستولون على حصيلة البحث والاستكشاف". مؤكداً وجود "شركات وهمية في منطقة المثلث الذهبي يديرها أفراد معروفون بتاريخهم في تمويل البلطجية بأسلحة".

ويتساءل الشيخ: "كيف حصل هؤلاء على أجهزة "الشيشنة" (جهاز لتحديد عيار الذهب غير مصرّح للأفراد بحيازته من دون ترخيص من مصلحة الموازين والدمغة)"، مؤكداً أن كميات الذهب المستخرج من مواقع الذهب بداية من قنا وقفط والقصير وسفاجا ومرسى علم وشلاتين تجمّع وتباع لتجار ذهب معروفين بمنطقة الصاغة.

لم تنجُ أيضاً الشركات الأجنبية التي لها حق امتياز بمنطقة المثلث الذهبي من البلطجية والعصابات المسلحة، ورغم وجود شركات كبيرة لتأمينها فإننا حصلنا على خطاب من شركة "آخ جولد" (Akh Gold) عام 2020، التابعة لمجموعة "لامنشا"، التي تمتلكها الشخصية البارزة في عالم الأعمال المصري نجيب ساويرس، إذ تمتلك الشركة حصة 35.05 في مصر، ولديها حق امتياز. والخطاب كان موجهاً في صيغة شكوى إلى وزير البترول المصري طارق الملا، بسبب عصابات البلطجية الذين يُهددون العمال، ما اضطرت معه الشركة إلى وقف أعمالها شهرين.

"آخ جولد" في شكواها أشارت إلى أن البلطجية المسلحين يشكلون تهديداً خطراً على جميع الشركات الأجنبية صاحبة حق الامتياز في منطقة المثلث الذهبي. ومع ذلك، نفت هيئة الثروة المعدنية مسؤوليتها عن حماية الشركات بمجرد الحصول على أراضيها، إذ تعتبر الهيئة أن مسؤولية الحماية تقع على عاتق الشركة ذاتها، بالتالي لا تستطيع تقديم أي دعم في هذا الصدد.

"الهدف من إنشاء المثلث الذهبي هو زيادة عائدات استخراج الذهب من 6 مليارات دولار إلى 8 مليارات سنوياً، لكن حتى الآن ما تحقق لا يمثل 0.5 في المئة". بتلك الكلمات حاول وكيل لجنة الطاقة بمجلس النواب محمد الجبلاوي، تفسير تنظيم هذه المناقصات. مشيراً إلى أن موظفي هيئة الثروة المعدنية يعانون "قيوداً حكومية، ولا يستطيعون التحرّك إلا من خلالها".

ما ذهب إليه الجبلاوي يؤكده رئيس المجلس الاستشاري العربي للتعدين والموارد الطبيعية حسن بخيت، إذ يرى أن "التنقيب التقليدي العشوائي كبّد الدولة خسائر كبيرة، بخاصة أن المنطقة الجغرافية التي تسمّى بالمثلث الذهبي، تحتوى على مواد تعدينية كثيرة". مرجعاً سبب عدم استفادة الدولة من هذه المنطقة إلى "اختيار الشركات العديمة الخبرة في البحث والاستكشاف، التي ليس لها ملاءة فنية ومادية وغير مؤهلة للتعدين".

وطالب بخيت بـ"مراجعة هذه الشركات من خلال لجنة فنية واختيار شركات لديها سابقة أعمال في مجال التعدين". مؤكداً أن الاشتراطات التي تضعها الدولة من خلال المزايدات التي تطرحها للبحث عن الذهب "غير محفّزة للشركات الرائدة في مجال التعدين".

علامات الاستفهام تحيط بـ"أس أم دبليو"

الولوج إلى عالم هؤلاء المنقبين والباحثين عن الذهب في تلك المنطقة الجغرافية المهمة كان أولى خطواتنا في مسيرة طويلة للكشف عن تلك العصابات، وأيضاً الشركات الأجنبية التي تستولي على الذهب ولا تلتزم حدود مناطق امتيازها، وهذا ما شاهدناه:

أثناء وجودنا بمواقع التنقيب رصدت "اندبندنت عربية" سيارة من طراز "لاند روفر" مميزة بعلم أصفر، تتبعنا السيارة من بعيد، وبالاستفسار من أحد الحراس عنها، أجاب: "السيارة خاصة بشركة روسية تحمل اسم (أس أم دبليو)".

حاولت معدة التحقيق التحدّث إلى مسؤول الشركة، الذي يُفترض أنه لبناني الجنسية ويدعى بولو، لكنه رفض. وتحدّث معنا أحد حراس الموقع الذي استقرت السيارة أمامه، معللاً ذلك بأن "وجودي هنا يشكل خطراً". موجهاً إلينا نصيحة: "لا تعودوا إلى هنا مرة أخرى، الجبل فيه ناس كتيرة عِفشة (سيئة)، وأقل واحد هنا يواجه حكماً بالمؤبد بعدما قتل اثنين أو ثلاثة أشخاص".

وبالتقصي عن الشركة ومدى مشروعية وجودها في الموقع، وجدنا أن رحلة التنقيب الخاصة بها انطلقت عام 2007 بمنجم الفواخير، وهو منجم فرعوني جرى تأميمه بعد ثورة 1952. ورغم إغلاقه في ذلك الوقت استأنفت الشركة العمل فيه بعدما حصلت على حق امتيازه. ومؤخراً دخلت الشركة في قضايا دولية مع مصر، لتتنازل في النهاية عنها عام 2020 لصالح الحكومة المصرية.

وبالبحث عن الشركات التي حصلت على حق التنقيب خلال العامين الماضيين، لوحظ غياب أية معلومات تشير إلى أن شركة "أس أم دبليو" فازت بأية مزايدات، ما يتناقض مع ما رصدناه بأن الشركة تنقّب في منطقتي الفواخير وأم بلد، اللتين تبعدان نحو 40 كيلومتراً عن مكان وجودها، ما يُثير تساؤلات عن طبيعة عمل الشركة في تلك المناطق.

وكانت "اندبندنت عربية" موجودة في الموقع يومي الـ 22 والـ 25 من يونيو (حزيران) 2023. وبعد مرور شهر تقريباً تبين أن الشركة توقفت عن العمل في الموقع، رغم أن معداتها لا تزال موجودة حتى وقت نشر التحقيق.

تواصلت "اندبندنت عربية" مع رئيس هيئة الثروة المعدنية المهندس ياسر رمضان، للاستفسار عن الشركة، وهل من أساس لوجودها في الموقع؟ لكنه طلب التواصل مع وزير البترول المصري طارق الملا، قائلاً: "غير مصرّح لي بإدلاء أي تصريحات صحافية". حاولنا الاتصال بوزير البترول المصري لكنه لم يرد، فأرسلنا بريداً إلكترونياً للشركة على موقعها الرسمي، فلم ترد أيضاً.

منجم صلاح... 200 بئر بأيدي مصرية وسودانية

أثناء إعداد التحقيق، نشرت وزارة الداخلية المصرية في الأول من أغسطس (آب) 2023 خبراً فحواه القبض على شخصين يحملان 53 كيلوغراماً من الذهب غير المدموغ في أسوان (جنوب مصر)، كان المتهمان في طريقهما إلى أحد التجار بمنطقة الصاغة بالجمالية في وسط القاهرة لبيعه.

انطلقنا في استكمال رحلتنا من المثلث الذهبي بالصحراء الشرقية إلى أقصى الجنوب (من أسوان حتى شلاتين جنوب مرسى علم)، وكان الخبر المنشور على موقع وزارة الداخلية المصرية بداية الخيط لاستكمال تتبع حلقات سلسلة سرقة مناجم الذهب بمناطق الدرع النوبي، التي تعدّ أغنى الأماكن الموجود بها عروق الذهب الخام، وفق وزارة البترول المصرية.

قادنا البحث إلى شخص يعيش في محافظة أسوان جنوب صعيد مصر، ويعمل بمنطقة شلاتين (على بعد نحو 255 كيلومتراً جنوب مرسى علم). وبعد أسبوع من التواصل الهاتفي أكد الرجل الذي يعمل في منجم يدعى "منجم صلاح"، وجود نحو 15 ألف شخص في هذا المنجم بين مصريين وسودانيين.

بتتبع المنطقة من خلال الخريطة الحدودية لمصر، تبين أنها تتبع إدارياً مدينة شلاتين، التي تقع بالقرب من محمية وادي الجمال. وفي الـ 15 من يوليو (تموز) الماضي، وصلت "اندبندنت عربية" إلى منطقة قريبة من "منجم صلاح"، للوقوف على حقيقته ومشروعية عمله.

غير أن الدليل المرافق لنا قال إن القوات المسلحة المصرية تجري مسحاً وتمشيطاً في المنطقة منذ الثالثة فجراً، مما كان أثره جلياً على وجه السائق الذي بدت عليه علامات الارتباك، رغم تأكيده معرفته بكل المدقات والطرق، وخبرته في العمل مع "الدهابة"، سواء كانوا مصريين أم سودانيين، خلال السنوات الثلاث الماضية. وأجرى مرافقنا بعض الاتصالات، بعدها طُلِبَ منا الرجوع من حيث أتينا: "الجيش مش بيهزر (لا يهرج)".

على مدى ثلاث ساعات متواصلة، ووسط عدم استقرار شبكة الاتصالات، أجرى الدليل عديداً من المكالمات الهاتفية لمعرفة ما يحدث في المنجم. إلا أنه في النهاية طلب منا المغادرة، مشيراً إلى أن أخباراً متداولة حول اعتقال أعداد كبيرة من السودانيين، إضافة إلى مصريين. فما كان من الدليل إلا أنه هاتف شخصاً آخر ليرافقنا إلى أسوان. وفي مساء اليوم التالي أرسل الدليل مقاطع فيديو توثق الانتشار الأمني المكثف بمحيط المنجم.

"زنجي" أحد الأشخاص الذين تحدثوا إلى "اندبندنت عربية"، يقول: "اكتُشف المنجم عام 2017 على يد صلاح جمعة (33 سنة)، وهو رجل من قبيلة البشارية، بعدما جمع عدداً من السودانيين الذين يعيشون في شلاتين، وحفروا آباراً تصل إلى 180 متراً في باطن الأرض للوصول إلى عروق الذهب".

ويبعد "منجم صلاح" نحو 45 كيلومتراً عن موقع شركة شلاتين للثروة المعدنية، ويتميز بنسبة عالية من الذهب. ويؤكد "زنجي" وجود نحو 10 آلاف شخص يعملون لحساب صلاح جمعة، و5 آلاف شخص آخر يعملون بنظام "الكومادية" (أي لصالح أنفسهم أو آخرين) مع مساحة المنجم التي قد تصل إلى 100 كيلومتر مربع.

تحدّثت "اندبندنت عربية" هاتفياً إلى شخص سوداني من قبيلة البشارية، الذي أكد أن "الآبار التي حُفرت في المنجم حتى الآن تصل إلى 200 بئر". مشيراً إلى أن "صلاح، صاحب المنجم، لديه شركة في مدينة شلاتين، لكنها تعمل من الباطن، ويشارك فيها بعض الشركاء ذوي النفوذ الذين يتقاسمون معه الذهب المستخرج". متسائلاً: "كيف يمكن لشخص يدير هذا الكم من المعدات والحفارات والرافعات، ويتحكّم في نحو 10 آلاف شخص، ولديه مكتب ومحاسبون وعمال، وحراسة داخل الموقع، أن يظل بعيداً من الأعين حتى الآن؟".

بالبحث والتقصي ، اكتشفت "اندبندنت عربية" أن هذه المنطقة لم تُعلن ضمن المناطق المطروحة للتنقيب من قِبل هيئة الثروة المعدنية، التي تتمثل في شركة "شلاتين" للذهب المملوكة للدولة، والتي أعلنت في أبريل (نيسان) الماضي، أكبر مزايدة عالمية للبحث والتنقيب عن الذهب في أغنى 5 مناطق بالصحراء الشرقية: منجم البرامية، ومنجم عتود، ومنجم أم عود، وحنجلية، وفاطيري.

تواصلت "اندبندنت عربية" مع أحد مسؤولي شركة "شلاتين" للثروة المعدنية المملوكة للدولة والمسؤولة عن التنقيب في المنطقة، لكنه نفى وجود منجم بالاسم المُذكور أو حتى المنطقة ذاتها. مشيراً إلى أن التنقيب العشوائي يجري فقط في منطقة العلاقي، مثل أم ريخة وأم قريات وأم غزال.

وأشار المسؤول، الذي طلب عدم ذكر اسمه، إلى أن هناك تعليمات صارمة بالعمل على استرداد جميع الأراضي التي يعمل فيها "الدهابة" وحرق معداتهم وجميع الأجهزة المستخدمة في التنقيب، لضمان عدم عودتهم مرة أخرى وتمكين الشركة من السيطرة على تلك الأراضي وتوجيهها نحو الاستثمار الأجنبي.

تعليقاً على ذلك، يقول رئيس المجلس الاستشاري العربي للتعدين حسن بخيب: "الدولة ممثلة في شركة (شلاتين) تجربتها غير ناجحة في البحث والاستكشاف، ولم تقم بدورها المنوط بها وهو مكافحة التنقيب العشوائي عن الذهب". مؤكداً: "حتى الآن التنقيب مستمر في الجنوب من قِبل الدهابة، وبسبب الفراغ الذي تسببت فيه الشركة سلك الباحثون عن المعدن الأصفر طرقاً غير قانونية في السيطرة على مواقع الذهب بعد فشل الشركة في استيعابهم".

 

منجم حمش... تأجير من الباطن للدهابة

بعد انتهاء رحلتنا داخل مواقع الذهب غير الرسمية (المُسيطر عليها من العصابات المسلحة) التي بدأت من منطقة المثلث الذهبي (قنا والقصير وسفاجا)، وامتدت إلى الجنوب بمنطقة شلاتين التي تقع على حدود مصر الجنوبية، بدأت رحلة أخرى من التقصي عن المناجم الرسمية بمرسى علم ، التي تعمل وفق اتفاقات رسمية.

وتمتلك مصر نحو 125 منجماً في الصحراء الشرقية، ومنطقة البحر الأحمر، والنوبة، ويعود تاريخ بعضها إلى عصر الفراعنة. ومع ذلك تعتمد مصر في استخراج الذهب بشكل أساسي على منجم السكري، الذي يجري تسليم نصيب مصر منه بنسبة 50 في المئة من إجمالي الأرباح وفقاً لاتفاقية مبرمة بين مصر وشركة "سنتامين" الأسترالية.

إضافة إلى ذلك، تمتلك مصر منجم "حمش"، الذي يعود إلى عصور فرعونية، وتديره شركة "حمش مصر" لمناجم الذهب بالمناصفة مع شركة "ماتزهولدنج" التي يمتلكها رجل الأعمال  هشام الحازق. ويقع المنجم على بعد 100 كيلومتر غرب مدينة مرسى علم في الصحراء الشرقية، وأُنتجت أول سبيكة ذهبية تجريبية في مصر من المنجم عام 2007.

حصلت "اندبندنت عربية" على نسخة من العقد الذي وُقع في عام 1999 بين هيئة الثروة المعدنية وشركة "كريست"، وهي أول شركة حازت حق امتياز البحث عن الذهب في منجم "حمش". وفي عام 2007 تنازلت "كريست" عن الحق لصالح شركة "ماتزهولدنج" القبرصية. ولم تجر أية تعديلات على بنود الاتفاقية خلال فترة تزيد على 24 عاماً.

النائب محمد الجبلاوي، وكيل لجنة الطاقة بمجلس النواب المصري، قال لـ"اندبندنت عربية": "توجد أيادٍ خفية تلعب دوراً في ملف مناجم الذهب بالصحراء الشرقية". مشيراً إلى "وجود مخالفات تتعلق بهشام الحازق، الذي يمتلك منجم (حمش) بالشراكة مع هيئة الثروة المعدنية، إذ إن مصر لم تحصل على منفعتها من هذا المنجم".

وعن طبيعة تلك المخالفات، يوضح الجبلاوي: "مساحة المنجم تبلغ 76 كيلومتراً، وتُؤجر الشركة الكيلومتر مربع من الباطن للدهابة مقابل 500 ألف جنيه سنوياً. أضف إلى ذلك الاتفاقية المبرمة بين هيئة الثروة المعدنية وشركة (كريست) تنص على أنه في حال عدم استخراج الشركة الذهب من منطقة امتيازها المحددة خلال 3 سنوات يُفسخ التعاقد، وهذا لم يحدث حتى الآن رغم مرور 24 عاماً على هذه الاتفاقية". متسائلاً: "لماذا لم يُسحب هذا المنجم حتى الآن رغم مخالفاته العديدة لبنود الاتفاقية؟".

على مدى 3 أشهر، تواصلت "اندبندنت عربية" مع رجل الأعمال هشام الحازق، صاحب امتياز منجم "حمش"، لكنه لم يرد على هاتفه.

وعلمت "اندبندنت عربية" من مصادر داخل المنجم أن أحد الشركاء قُبض عليه في أثناء تهريبه 88 كيلوغراماً من الذهب بنظام الغش عام 2015، بعدما غطّى السبائك الذهبية بقشرة ذهب عيار 9 قراريط، بهدف إخفاء عياري 21 و24، التي كانت تقدر آنذاك بـ18 مليون جنيه.

وهذه الحيلة واحدة من ممارسات مهرّبي الذهب في مصر، إذ يلجأون إلى وضع قشرة من معدن النحاس ومعادن أخرى، لتضليل عمليات الكشف، بخاصة إذا كانت عمليات التهريب تجري عبر المطارات.

هذه طرق تهريب الذهب المصري عبر السودان

من هنا، كانت بداية تتبع رحلات تهريب الذهب من مصر إلى خارج حدودها. التقت "اندبندنت عربية" مهرّب ذهب عبر الحدود بين مصر والسودان يدعى راشد. طلبنا منه توفير 10 كيلوغرامات من الذهب فرد بابتسامة ساخرة: "هل ترغبين في العمل الرسمي أم عبر التهريب؟".

الشاب المهرّب، الذي يقود سيارته في الصحراء، شاركنا تفاصيل عمله الذي يتقنه على مدى سنوات، إذ يهرّب الذهب برفقة أعمامه من مصر إلى الخارج، عبر طرق حدودية معروفة تعرف باسم "النطة".

يحكي راشد أن بداية الرحلة من المدينة الصناعية التي تبعد عن أسوان 500 كيلومتر وصولاً إلى الكسارة، وهي مدقات تعرف بطريق الزلط، وتقع على بعد 45 كيلومتراً من منطقة شلاتين، وتأتي "النطة" بعد الكسارة على بعد نحو 27 كيلومتراً. يقول: "نمضي في طريق جانبي يمتد كمدقات لنصل إلى منطقة مناجم الرخام، وبعد ذلك بمسافة لا تتجاوز نصف ساعة، يظهر مكان يُعرف بـ(التبريدة). يتوقف المهربون في هذه المنطقة، يملأون خزانات السيارات بالبنزين ويتناولون الطعام ويقضون حاجاتهم في مدة لا تتجاوز 15 دقيقة". مشيراً إلى أن هذه المنطقة "تشهد عبور قُطّاع الطرق، إذ يمكن أن يتعرض صاحب السيارة للسرقة من قِبَل البلطجية".

ويستكمل راشد تفاصيل الرحلة: "نتجه نحو محلية العبابدة. وهذه المنطقة يسيطر عليها بعض أفراد قبيلة العبابدة، إذ يعتبرون أنفسهم أصحاب الأرض، ويفرضون رسوماً معينة تُعرف بـ(الضريبة) على العابرين على هذه الطريق، وبعد 100 كيلومتر من محلية العبابدة، نصل إلى وادي العرب، المدق الضيق الواقع وسط الجبال، ومن هناك نتجه نحو الخلاء، ومنه إلى السودان. وفي العودة نعبر وادياً ضيقاً يسلكه تجار السلاح فقط، ومن ثمّ إلى وادي العلاقي في مصر، الذي يسهّل عملية الدخول إلى الصعيد".

ويكشف راشد عن استراتيجية التجار المصريين في تهريب الذهب السوداني، وذلك إما عبر التعامل مع مهربين محليين، أو عن طريق أفراد مصريين يتنكّرون كركاب عاديين يسافرون من أسوان إلى شلاتين مع سيارات التهريب، ومن ثمّ يستخدمون السيارات المسروقة لنقل الذهب وركابهم. وفي السودان يشترون السيارات المسروقة، ويحملون معهم نساء ورجالاً ، ويدّعون أنهم يهربون السودانيين الفارين من الحرب.

أمّا الذهب، بحسب ما حكاه راشد، فيُخبأ في أمتعة الركاب. والتاجر يجمع أموالاً تصل إلى 20 ألف جنيه مصري من الركاب، وعند دخوله الأراضي المصرية يترك السودانيين قرب شلاتين، ويستخدم طريق المدقات للوصول إلى أسوان، حيث يبيع السيارة قطع غيار في مدينة دراو (تتبع محافظة أسوان)، أو يدخل عن طريق مرسى علم، حيث يستخدم السيارة بعد ذلك في عمليات تهريب الذهب والسلاح.

لا يقتصر عمل المهربين على تهريب الذهب فقط، بينما يمتد ليشمل الاتجار بالبشر، بخاصة بعد توتر الأوضاع في السودان، فمن يهرب من جحيم الحرب هناك يأتي إلى جحيم آخر هو التنقيب عن المعدن الأصفر بالصحراء المصرية من دون أية أوراق ثبوتية، وهذا ما رصدناه في أثناء وجودنا.

في قلب الصحراء، وسط مشهد يعكس بؤساً، جاءت سيارة محملة بشباب سودانيين، وصلوا للعمل في المنطقة بطريقة غير شرعية. وحينما طلبنا منهم التحدّث إلينا كان ردهم: "ملناش (لا يوجد لنا) دية في هذا البلد، إحنا (نحن) داخلين بشكل غير رسمي، ولا نريد مشاكل".

يمتلك الشبان السودانيون برميلاً صغيراً يحتوي مياهاً ساخنة غير صالحة للشرب، ويترجلون في الصحراء من دون أحذية تحميهم سخونة رمالها، ومن دون خيمة تقيهم شمسها الحارقة. وحول كيفية مجيئهم إلى صحراء مصر قالوا إنهم "لم يتلقوا سوى مساعدة بسيطة من شخص قدّم لهم 5 أكياس من الخبز، وعلبة جبنة، و4 علب فول قبل سبعة أيام، ولم يظهر لهم أحد منذ ذلك الحين".

طواحين الذهب... مرو وزئبق وتشنيش

بعد إنجاز المهمة الأصعب بصعود الجبل وسط ظروف خطرة، وثقنا خلالها أول سلسلة في حلقات سرقة مناجم الذهب سواء الرسمية وغير الرسمية، اتجهت "اندبندنت عربية" إلى طواحين الذهب  وسط قرية تبعد عن منجم الذهب بنحو 100 كيلومتر، تحدثنا مع صاحب الطاحونة، الذي رفض في البداية الحديث، لكنه وافق على التوثيق شرط عدم إظهار وجوه العاملين.

"طواحين الذهب وظيفتها طحن أحجار المرو المستخرجة من الجبل، وهي طاحونة كروية تُصنع من حجر ثقيل يدور دائرياً. ثم يُغسل الحجر ويصفّى، إذ يُخلط مع الماء والتربة، وذلك باتباع طريقة الطفو التي تعتمد على فصل الذهب باستخدام (الزئبق)، بعدها يكشط الذهب عن السطح". يقول عمران صاحب الطاحونة.

ويستكمل عمران (27 سنة)، "بعد الكشط يدخل الذهب مرحلة أخرى عن طريق استخدام مواد كيميائية مثل (السيانيد) الذي يأتي مهرباً من السودان، ثم المرحلة الأخيرة بالتسخين، حتى يصبح قطعة صُلبة، وبعدها نجري عملية (تشنيش) للذهب، لمعرفة عيار السبيكة، وذلك عبر جهاز (الشيشنة) المخصص لمعيار الذهب، وهو جهاز يشبه الميزان الرقمي، ويُباع لتجار الذهب المتخصصين في جمع هذا النوع من الذهب الذي يأتي إليهم تاجر من الصاغة لجمعه وشرائه"، بحسب قوله.

هنا ينتهي دور المنقبين والباحثين عن المعدن الأصفر، لأنه بمجرد سبك الذهب وتحويله إلى قطعة صُلبة تباع كسبائك للتجار، وهي ثاني مرحلة في سلسلة عمليات سرقة مواقع الذهب، وتبدأ المرحلة الثالثة بعد ذلك، وهي فصل الشوائب نهائياً، ودمغ الذهب، ثم تداوله بالسوق.

ولتوثيق كيفية فصل الشوائب عن الذهب، حصلت "اندبندنت عربية" على قطعة ذهب اشترتها من "الدهابة" بعد سبكها، توجهنا بها إلى أحد محلات "الشيشنجي " (مهنة مُصرّح بها لمهمة عمل "الشيشنة" للذهب قبل تحويله إلى مشغولات ذهبية)، وجرى التخلص من الشوائب حتى وصلت القطعة إلى عيار 24. والآن، باتت جاهزة للتصنيع والتشكيل كمشغولة ذهبية، إذ كانت المهمة سهلة للغاية.

حينما أمسك "الشيشنجي" قطعة الذهب التي جئنا بها من الجبال، قال: "هذا الذهب زفر مش نضيف (يقصد أنه لم يمر بمراحل فصل الشوائب)، جاء من مناجم الصعيد". وبسؤاله: هل يصادفه هذا النوع كثيراً في مهنته؟ أجاب: "بشكل متكرر يأتينا ذهب من مناجم قبلي (يقصد جنوب مصر)، ونجري له عملية (الشيشنة)، ثم يدمغ العيار على السبيكة".

دمغ الذهب خارج "المصلحة"

لكن، ماذا بعد عملية التنقيب والاستخراج والسبك والدمغ، كيف يُطرح هذا الذهب في السوق المصرية؟ وتحت أي مسمى؟ ومن يسيطر عليه؟

الإجابة جاءت من داخل حي الجمالية العتيق بوسط القاهرة، حيث يجلس صاحب إحدى شركات الذهب، بجوار خزانة حديدية ضخمة. ورغم ضيق المكان الذي يقع في الدور الأرضي بإحدى بنايات الحي، تظهر لنا الحياة النابضة في هذا المكان الذي تتداخل فيه الحواري والأسرار، بينما تروي البناية قصة تطور صناعة المعدن الأصفر على مر السنين.

صاحب شركة الذهب، الذي طلب عدم كشف اسمه أو اسم شركته، يقول: "سوق الذهب في مصر يسيطر عليه ثلاثة أفراد فقط، وهم (ر. ع) المسؤول عن استخراج وتنقيب الذهب، و(م. م) المسؤول عن الذهب المهرب، و(ج. م) المسؤول عن توزيعه على الشركات، وثلاثتهم يعملون لصالح شخص معين (رفض تسميته)". مشيراً إلى أن "سوق الذهب تعمل وفقاً للتسعيرة التي يحددونها، لأنهم يحتكرون الذهب الخام".

ويكشف المصدر، في حديثه لـ"اندبندنت عربية"، أن "60 في المئة من الذهب المتداول في السوق المصرية، بخاصة ذهب المناجم أو المهرب، يُدمغ خارج نطاق المصالح الرسمية، وذلك حتى يمكنهم إعادته مرة أخرى خارج البلاد وبيعه بالعملة الصعبة، ثم بيع الدولارات المتحصّلة في السوق السوداء".

ويلفت المصدر إلى أن "نسبة كبيرة من الذهب يُدمغ بعيار أعلى من حقيقته. وأقول لك إنه إذا رغبت المصلحة في التفتيش على محال الصاغة ستجد أن 60 أو 70 في المئة من الذهب عياره أعلى من العيار الحقيقي، لأنه دُمغ بأقلام مستوردة من الخارج وخارج المصلحة".

ودعا صاحب شركة الذهب السلطات المصرية إلى إحلال وفحص جميع كميات الذهب المتداولة، والتحقق من مطابقة عيارها بدقة، كما طالب بالتحقيق في كميات الذهب التي تدخل مهربة يومياً عبر الحدود المصرية، وتصل إلى 50 كيلوغراماً على الأقل يومياً، والتحقق من كميات الذهب المستخرجة من المناجم التي يسيطر عليها البلطجية لصالح رجال الأعمال. مشيراً إلى أن الدولة تتكبد خسائر ضخمة تصل إلى ملايين الدولارات وأطنان من الذهب لصالح أفراد بعينهم.

وفي تصريحات صحافية سابقة عام 2020 لرئيس مصلحة الموازين والدمغة السابق اللواء عبد الله منتصر، أكد أن 75 في المئة من أسواق الذهب تفتقر إلى رقابة المصلحة بسبب نقص العمالة، رغم وجود تشريع يفرض على كل حائز مشغولات ذهبية الخضوع لرقابة المصلحة ودفع الرسوم المقررة. علماً أن نظام تكويد الذهب بواسطة QR Code نُشر في الجريدة الرسمية عام 2014، لكنه لم يُطبق حتى الآن، رغم إعلان وزارة التموين المصرية العام الماضي بدء تنفيذه. ويتضمن الدمغ بالليزر بهدف الحد من التلاعب.

تواصلت "اندبندنت عربية" مع ناجي فرج، مستشار وزير التموين لشؤون صناعة الذهب، في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وبسؤاله عن سبب عدم تطبيق نظام الدمغة بالليزر حتى الآن، أكد أنه سيطبق قبل نهاية عام 2023، وحتى نشر التحقيق لم يطبق القرار لأسباب غير معلومة.

وبسؤاله حول ما ذكرته المصادر بأن 60 في المئة من الذهب المتداول في السوق المصرية دُمغ خارج المصلحة الرسمية، نفى ذلك. مؤكداً أن السوق "منضبطة وتحت السيطرة من الإسكندرية حتى أسوان (يقصد جميع أرجاء مصر)". لكن ما كان لافتاً في حديث فرج لـ"اندبندنت عربية" في المكالمة ذاتها، ما أكده أن مصلحة الموازين والدمغة بالتنسيق مع التجارة الداخلية أقامتا مزاداً على نحو 120 سبيكة ذهبية كانت قد "جُمعت من خلال مضبوطات جرت مصادرتها".

وعن حجم الذهب الذي دُمغ عام 2023، أكد فرج أن مصلحة الموازين والدمغة دمغت 60 طناً من الذهب، إضافة إلى 2.5 طن من خلال مبادرة الإعفاء الجمركي للمصريين العاملين بالخارج. لكن، مصادر موثوقة بسوق الذهب، طلبت عدم ذكر أسمائها، أكدت أن حجم تداول سوق الذهب في مصر تخطى 200 طن، معللين ذلك أنه وفق مجلس الذهب العالمي فإن أعلى فترة تاريخية لشراء الذهب كانت عام 2023.

ودللت المصادر على كلامها بأن "مبيعات إحدى الشركات المتخصصة في السبائك تخطت طن ذهب  شهرياً، والسوق تحتوي على أكثر من 200 تاجر جُملة، إضافة إلى المصانع (الذين يبيعون الذهب لتجار التجزئة والمحال)". وتساءلت: "ماذا عن كميات الذهب الذي جرى تصديره؟"، مؤكدة أن ما لا يقل عن 30  طناً من الذهب المتداول "غير معلومة المصدر تتداول بالسوق المصرية".

عيار الذهب "مغشوش"

 الرواية التي ذكرها صاحب شركة الذهب تتفق مع ما سرده الرجل السبعيني فؤاد عبد الباقي، تاجر ذهب، في قلب شارع المعز بوسط القاهرة التاريخية. يقول: "أصبحت تجارة الذهب في مصر تحت سيطرة بعض التجار الذين يتحكمون في سوق البيع والشراء".

ويشير عبد الباقي إلى أوجه فساد عدة تسرّبت إلى سوق الذهب المصرية، منها "القلم الذي يُستخدم لدمغ المشغولات الذهبية، إذ أصبح مزوراً ويدخل إلى مصر عبر لبنان وإيطاليا. وعديد من التجار يدمغون الذهب خارج نطاق الرقابة الرسمية لمصلحة الدمغة، وهذا ما يجعل التجار يقبلون على شراء ذهب المناجم". موضحاً: "التجار يدمغون الذهب الخاص بشركاتهم خارج المصلحة، إذ يوفر ذلك نحو 10 جنيهات لكل غرام، وهو قيمة الضريبة، أي نحو 10 آلاف جنيه لكل كيلوغرام، والمفترض أن عيار 21 يكون مُعيّراً برقم 875، لكن أغلب الذهب يكون من 860 إلى 865، وبهذه الحسبة يوفر نحو 30 ألف جنيه في الكيلو الواحد، ما يرفع أرباح التاجر إلى 40 ألف جنيه لكل كيلوغرام". بحسب عبد الباقي.

ويضيف فؤاد عبد الباقي: "التجار يجمعون الذهب من السوق، لتصديره إلى الخارج بهدف جلب الدولارات، وفي ما بعد يبيعون هذه الدولارات في السوق السوداء، مما يفاقم مشكلة النقص في المعروض، ويرفع أسعار الذهب في السوق المحلية. هذا الوضع يُشكل عبئاً على مصر، إذ تحاول السوق تلبية الطلب المتزايد رغم نقص المعروض". مطالباً الحكومة المصرية بـ"وقف تصدير الذهب".

وتواصلت "اندبندنت عربية" مع اللواء أحمد سليمان، رئيس مصلحة دمغ المصوغات والموازين، للوقوف على حقيقة ما ذكره التجار، وقد ردّ على الهاتف في المكالمة الأولى لكنه أخبرنا بانشغاله. وعند استفسارنا عن عملية دمغ الذهب في الأسواق، طلب معاودة الاتصال خلال ساعة. ولدى محاولة الاتصال مرات عدة على فترات متباعدة، لم يرد رئيس المصلحة على هاتفه.

ورغم وجود قانون يجرّم عمليات التنقيب، والتهريب، وحيازة ذهب مدموغ خارج مصلحة الموازين والدمغة، وإقرار عقوبة بالحبس والغرامة المالية، فإن عمليات التنقيب غير الرسمي من قِبل العصابات المسلحة تبقى مزدهرة ومتزايدة بشكل أوسع، في وقت تخسر الدولة المصرية مئات الأطنان من الذهب، وملايين الدولارات في ظل تزايد عجز الموازنة العامة للدولة.

وعلى أثر اضطراب سوق الذهب، ألقت السلطات المصرية القبض على ثلاثة من أباطرة الذهب، في ما عُرف إعلامياً بقضية "الذهب الكبرى"، وهم: الملياردير المصري هشام الحاذق، وتاجر الذهب ريمون عيسى، ورجل الأعمال السوداني عبد الباسط حمزة.

كتابة
عزة مغازي

تحرير وإعداد
إيليانا داغر

التنفيذ والغرافيك
مريم الرويغ

رئيس التحرير
عضوان الأحمري