Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لو كنت هناك... حرب غزة واختبار الضمير الشعبي

الشعور بالعجز يطارد كثيرين ممن يتابعون أحداث القطاع والمساهمة في التبرعات بالمال والدماء سبيل التكفير عن ذنب لم يقترفوه

مشاهدة ما جرى في غزة لها نتائج عدة ومنها كرب ما بعد الأزمة (أ ف ب)

ملخص

"كنت أشعر بالرفاه وهذا أمر جيد، لكن بالنظر إلى المشاهد الصعبة في غزة تولد لدي شعور بأنني مذنبة"... أحداث القطاع توقظ متلازمة الناجين لدى المتابعين

اللون الأحمر يطغى على كل شيء في عواجل شاشات التلفاز وتنبيهات المواقع الإخبارية، وما بين الاثنين يبرز اللون قاتماً من دماء الأطفال والنساء وكبار السن وغيرهم في قطاع غزة عبر مقاطع فيديو مصورة تلقى رواجاً كبيراً على مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها، فتسبب حسرة وحزناً وشعوراً بالذنب أيضاً.

منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وانطلاق ما سمّته فصائل فلسطينية عملية "طوفان الأقصى" والرد الإسرائيلي بما عُرف بـ "السيوف الحديدية"، ومشاهد الدمار والخراب والقتل الناجمة عن القصف والغارات والرصاص الحي تؤلم مريم سلمان، لكنها لا تنفك عن المشاهدة والمتابعة حتى بعد هدنة إنسانية أقرت خلال الأيام الماضية بعد 49 يوماً من الحرب على القطاع.

تأثر عالمي

ومريم واحدة ضمن ملايين حول العالم تابعت مجريات الحرب على قطاع غزة وتأثرت بما يحدث هناك، وكان لها موقف تجاه الأوضاع البالغة الصعوبة والقسوة في القطاع، وإن عبرت عن ذلك الرفض بأشكال مختلفة ومنها التدوين والخروج في احتجاجات ومقاطعة منتجات دول تعلن دعمها إسرائيل، لكنها لا تنفي أنها على المستوى النفسي "تأثرت كثيراً بما حدث".

وضمن ذلك التأثر كان شعورها طوال الوقت أن عليها "التكفير عن ذنب لم تقترفه، وأن تزهد في الأشياء من دون شكوى من أمور كانت اعتيادية بالنسبة إليها"، وأعادت الفتاة المصرية، بحسب ما تصف، ترتيب أولويات حياتها ونظرتها أيضاً إلى العالم بكل ما فيه.

"كنت أشعر بالرفاه وهذا أمر جيد، لكن بالنظر إلى المشاهد الصعبة في غزة تولد لدي شعور بأنني مذنبة، حتى لو أن ذنبي هو التقصير في حق الأبرياء هناك"، وتحكي الشابة ذات الـ34 سنة التي درست الحقوق في جامعة القاهرة بمصر وكان ذلك الشعور هو المحرك الرئيس لها في مقاطعة منتجات كثيرة كانت تراها أولوية، لكن الأمر اتخذ مع مريم بعداً آخر.

الهروب إلى المقاطعة

رأت مريم أنها تتخلص من شعورها بالذنب في حملة المقاطعة التي انطلقت في دول عربية مختلفة، معتقدة أنها بذلك قد تشعر ببعض الطمأنينة أنها فعلت ما عليها تجاه القضية الفلسطينية وحقوق الأبرياء الذين سقطوا ضحايا آلة القتل الإسرائيلية، لكن سرعان ما شعرت أن ذلك "غير كاف" فانضمت إلى مقاطعة منتجات رأت فيها أنها غير مهمة ولا تقع ضمن إطار الضرورة أو حتى الأولوية، "نأكل ونشرب ولا نجد مشكلات في الأمرين، لكن بالنظر إلى هناك فالحد الأدنى من حياة لا أقول آدمية حتى غير متوافرة"، تحكي الشابة.

وما تتحدث عنه مريم يعرف باسم "عقدة الناجي" التي تتكرر مع الكوارث الطبيعية والحروب والأوبئة والأحداث الكبرى والحوادث أيضاً، إذ يُسائل الشخص ذاته حول طريقة حياته ومعاناة غيره، ويقارن ما بين العالمين ولماذا لم يكن أحد الذين يعانون ونجا هو، وهو أمر معروف أيضاً باضطراب الناجين أو متلازمة الناجين، وهي أحد أعراض اضطراب ما بعد الصدمة أيضاً، وهو مصطلح للمحلل النفسي "وليام نيدرلند" صاغه أثناء العمل مع الناجين من الـ "هولوكوست".

"كأنك خنتهم"

وبالنظر في عدة منشورات لاقت رواجاً كبيراً على مواقع التواصل الاجتماعي خلال الفترة الأخيرة، فإن بعضها كان يتناول تلك العقدة من دون شعور في هيئة منشورات عدة، كان منها على سبيل المثال "تشعر أنك خنتهم حين نمت هانئاً بين أربعة حوائط"، أو "تشعر أن مجرد شربك المياه جريمة لأن غيرك لا يستطيع شرب مياه نظيفة"، وأيضاً "كأنك لو نمت فقد خنتهم ولو استمتعت بالدفء فقد خنتهم، ولو ضحكت فقد آذيتهم بذلك الضحك"، وهي عبارات كانت تتداول بصورة كبيرة ولا سيما مع الأحداث الكبيرة في قطاع غزة، مثل قصف مستشفى المعمداني ومخيم جباليا والليالي التي كان القصف فيها يستعر، وكانت تلقى انتشاراً بصيغ مختلفة في غير دولة عربية.

"انظر ماذا يحدث في غزة" صارت عبارة من قبيل النظر إلى مآسي الآخرين وما يمرون به في مقابل مشكلات بعضهم، وبحسب محمود لطفي، الشاب الذي يعمل في مجال إصلاح الهواتف الجوالة في وسط العاصمة المصرية، حين كان يناقش الأمر مع بعض أصدقائه على مقهى قريب من عمله، وتحدث الجميع حول صعوبة الحياة في ظل الحروب واعتبار المشكلات التي تحدث خارج ذلك الإطار عادية.

ترتيب الأولويات

"بصورة شخصية كنت أود شراء سيارة جديدة، لكن أسعارها مرتفعة بشكل مبالغ فيه، فقال لي صديقي هل رأيت عربات الـ "كارو" وهي تنقل المصابين إلى المستشفيات؟"

ويحكي لطفي الذي ساق له صديقه العبارة من قبيل تأكيد أن سيارته الحالية تقوم بالعمل الكافي ولا حاجة إليه في تجديدها، وسيكون الأمر من قبيل صرف أموال في غير محلها "وعلى رغم أن هذا المنطق قد يكون خاطئاً لكن لم أستطع الرد وعدت إلى منزلي أفكر في كل شيء".

يقول الشاب إنه حاول على مدى الأيام الماضية ادخار بعض الأموال في أمور كان يعتبرها رفاهية، وجمع تلك المبالغ وإيصالها كمساعدات إلى قطاع غزة من خلال الجمعيات والمؤسسات الرسمية التي تقوم على الأمر، "كان هذا الأمر الوحيد الذي صنع لدي شعوراً بأنني فعلت ولو قليلاً مما يجب علي فعله".

كان الشاب يعتقد أن ذلك الشعور سيلازمه أياماً عدة فقط من انطلاق الحرب على غزة، لكنه ضبط نفسه في ثالث أيام الهدنة التي بدأت في الـ24 من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي وهو يتناقش مع أولاده حول مياه غازية سيئة الطعم، أو أقل جودة في مذاقها عن أخرى قرر مقاطعتها، ليخبرهم بأن عليهم مقاطعة هذه وتلك، "شعرت بأن هناك مبالغة من ناحيتي وغضباً ينصب تجاه أطفالي، وهذا بالتأكيد أمر خاطئ واعتذرت إليهم في المساء واشتريت لهم هدايا".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لديّ منزل

ولم يتوقف الشاب عن ادخار بعض أمواله لتوجيهها إلى مؤسسات تجمع تبرعات لسكان قطاع غزة، لكنه توقف عن متابعة الأخبار وعاد من جديد لشراء مواد كان قد توقف عن شرائها باعتبارها رفاهية كبيرة بالنسبة إلى غيره ممن في القطاع، وكانت هذه الأمور على رغم بساطتها تزعجه، "في نهاية اليوم أعود للمنزل لكن هؤلاء قصفت بيوتهم وباتت حياتهم شبه معدومة، فكان يتولد لدي شعور بالذنب طوال الوقت".

مشاهدة ما جرى في غزة، بحسب استشاري الصحة النفسية وليد هندي، له نتائج عدة ومنها كرب ما بعد الأزمة، إذ "يتولد لدى بعضهم شعور بالعجز من ناحية، وشعور بالذنب من جهة أخرى يترتب على الشعور الأول"، كما أن هناك أنماطاً وصفات بشرية لدى بعضهم مثل العجز عن مشاركة ما يشعر به أو التعبير عنه، وبالتالي شعوراً أكبر بالذنب.

تصريف الغضب والذنب

ويقول هندي إن التغلب على ذلك الشعور يكون بالمشاركة في أمور أخرى تصرف ذلك الغضب والحزن، مثل التبرع بالدم أو المال ضمن الوسائل الرسمية للأمر، "لأن ذلك الشعور بالذنب أو عقدة الناجي قد تولد لدى بعضهم شعوراً معاكساً، فتؤثر في حياته بصورة صعبة مثل عدم الذهاب إلى العمل أو التراخي عن بعض الواجبات وهو أثر سيئ".

ويربط الهندي بين أمرين وبين عقدة الناجي، وهي مدى تأثير ما حدث في عدد كبير من الناس، والمدى الزمني الذي استغرقه هذا الفعل، وفي حال الحرب على غزة و49 يوماً قبل الهدنة وارتفاع الضحايا إلى أكثر من 15 ألف شهيد وتضرر نحو 60 في المئة من المنشآت السكنية وغيرها من الأزمات، فإن ذلك الشعور سيلازم كثيرين ولفترة طويلة، كما أن ما ترتب على ذلك الشعور سيمتد أيضاً لفترة طويلة "بالنظر إلى الفعل، وهو هنا الحرب على غزة ورد الفعل، وهو هنا تصرفات المواطنين حول العالم في شأن ما يحدث مع امتداد تلك الحرب، فإن ذلك التأثير سيطول لفترة غير قليلة لكنه يختلف من شخص إلى آخر"، يحكي استشاري علم النفس.

حياة بدائية

ومما فاقم ذلك الشعور بالذنب العودة لبعض الأمور البدائية في قطاع غزة خلال الـ49 يوماً قبل الهدنة، فكان بعضهم يستحم في مياه البحر ويشرب منها كذلك مع الإضاءات بالشموع والتدفئة بالأخشاب وشحن بطاريات الهواتف بأمور بدائية، ثم انقطعت خدمات الاتصال والإنترنت وانتشرت مشاهد لصناعة الطعام على نيران الأخشاب ونقل المصابين على عربات تجرّها الحمير والخيول، وهي مشاهد علقت في ذاكرة كثيرين رأوا في الحياة العادية في أماكن أخرى ما يشبه جنة لمن هم في القطاع المحاصر.

"لم أسلم من الأمر لكنني حولته إلى أمر إيجابي"، قالها مصطفى راضي الذي قرر بعد الأسبوع الثالث من الحرب على غزة أن يجمع شهرياً أموالاً ولو بسيطة ويتبرع بها للفقراء، ويشجع أولاده الصغار على فعل الأمر نفسه، كما قرر أيضاً شراء ألعاب لأطفال أيتام في جمعيات خيرية في محيطه وتقديم وجبات غذائية للفقراء من خلال مؤسسات تفعل الأمر.

يعتقد مصطفى (44 سنة) أن ذلك أفضل ما يمكن فعله بعد الشعور الذي مر به خلال الأيام الأولى من تلك الحرب، ويعتقد أنه بذلك التصرف تخلص ولو قليلاً من شعوره بالذنب تجاه ما يحدث في قطاع غزة، وإن لم يكن له فيه يد ولا حيلة "وأتمنى أن يستمر هذا الأمر، الأوضاع هناك لفتت نظري إلى كل أشكال المعاناة، الذين يعانون الجوع والبرد وغيرهم كثير".

شعور ممتد

يشعر الإنسان بآلام غيره ويتصور نفسه مكان الآخر، وحين يعجز عن تقديم مساعدة، بحسب أستاذ علم الاجتماع السياسي سعيد صادق، وهو ما يجعل ردود الأفعال سريعة والتعاطف كبيراً إن كان الحدث يتعلق بشعور إنساني، "فما حدث في غزة ستكون له تبعات طويلة المدى، إضافة إلى أنه حرك شيئاً في الضمير الإنساني العالمي ودفع كثيرين إلى البحث في ما يتعرض له الفلسطينيون".

ويعتبر صادق أن التغيرات التي خضع لها بعضهم سيكون مداها طويلاً، "الناس تابعت لمدة تصل لنحو 50 يوماً أحداثاً كبيرة وخطرة وليس من السهل التخلص منها ومن آثارها"، معتبراً أن ما حدث سيكون له تأثير ليس فقط في بعض الأفراد داخل دول أو مجموعات عدة وإنما على قرارات بعض الدول أيضاً وسياساتها الخارجية، "ولا يمكن تجاهل ما حدث بالنسبة إلى الأفراد أو المجتمعات أو حتى المسارات السياسية التي يمكن أن تسلكها الدول في تعاملها مع إسرائيل".

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير