Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"دار أندوكا" سلطنة المساليت النازفة في دارفور

اسم قديم للجنينة يلوح أبناؤه بإنهاء اتفاقية قلاني والانفصال عن السودان

طريق زالنجي - الجنينة الرابط بين عاصمتي ولايتي وسط وغرب ودارفور (حسن حامد)

ملخص

قبل أكثر من عامين وتحديداً في أبريل 2021 وقعت هجمات ذات طابع عنصري على المساليت تتكرر هذه الأيام بالسيناريو نفسه فيما وصف الوضع في مدينة الجنينة آنذاك بأنه بشع ومروع تحولت خلاله المدينة المنكوبة إلى أسوأ بقعة في الكون للحياة فيها.

على مدى عقدين من الزمان، لم ينقطع نزيف "دار أندوكا" سلطنة دار مساليت ومنسوبيها في السودان بفعل هجمات ذات طابع عرقي من قبائل عربية كانت يوماً تستضيفهم على أرضها عندما كانت مملكة ذات سلطان مستقل، لكن السلطنة التاريخية ما زالت مثقلة بالجراح، تشكو وتئن من الاستهداف بالقتل ذي الطبيعة العرقية والتهجير القسري والإبادة وكأن المآسي تلازمها، فما حكاية تلك الدار؟

تعرف مدينة الجنينة عند أهلها وعموم السودانيين بـ"دار أندوكا"، و"أندوكا" هي كنية السلطان بحر الدين الكبير مؤسس المدينة وتعني "القدح الكبير". أما القدح عند السودانيين، فهو طبق أو صحن خشبي ضخم يقدم فيه الطعام لأعداد كبيرة من الضيوف، وكانت عاصمتها الأولى تسمى "دارجيل" قبل أن ينقلها السلطان إلى الجنينة على الضفة الغربية لوادي كجا عام 1913 كعاصمة إدارية وروحية لسلطنة المساليت.

في تعريف موجز لـ"دار أندوكا" يقول السلطان بحر الدين، "سلطنة دار مساليت من السلطنات العريقة التي نشأت في وسط أفريقيا جنوب الصحراء، واحتضنت مكونات عدة بمختلف قبائلهم، عاشوا في انسجام ووئام طوال العهود الماضية، غير أن هناك الآن من يتربص بالمساس بأمن وأمان واستقرار هذه السلطنة، في ظل الظروف الأمنية المعقدة التي باتت تعيشها".

محنة ممتدة

قبل أكثر من عامين وتحديداً في أبريل (نيسان) 2021 وقعت هجمات ذات طابع عنصري على المساليت، تتكرر هذه الأيام بالسيناريو نفسه وتتجدد فصول أحداث مأساتها ونزفها الممتد أيضاً، ووصف الوضع في مدينة الجنينة آنذاك بأنه بشع ومروع تحولت خلاله المدينة المنكوبة إلى أسوأ بقعة في الكون للحياة فيها.

مجدداً وعلى مدى ثلاثة أشهر بعد حرب الخرطوم بين الجيش وقوات "الدعم السريع" منذ منتصف أبريل الماضي، تعرضت مدينة الجنينة "دار أندوكا" خلال في الفترة من الـ 24 من أبريل حتى الـ12 من يونيو (حزيران) الماضيين لهجمات دموية اتهمت بشنها ميليشيات عربية (الجنجويد) متحالفة مع "الدعم السريع" التي كانت تحاصرها في الأسبوع الأخير من مايو (أيار) الماضي، وقدّرت حصيلة القتلى فيها بـ1200 شخص إضافة إلى أكثر من 3 آلاف جريح ومثلهم من المفقودين، فضلاً عن 100 ألف نازح من منطقتي الجنينة ومستري وما جاورهما على الحدود التشادية.

الجنائية الدولية

وثقت منظمات أممية عدة تلك الأحداث من واقع تقارير ومشاهدات والكشف عن 13 مقبرة جماعية داخل المدينة وخارجها وعلى ضفاف وادي كجا الذي تحول إلى بركة من الدماء والجثث، بعدما كان من أهم ملامح جمال المدينة ومصدر خيراتها الزراعية.

 

 

وأمام ذلك فتح المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان تحقيقاً لا يزال مستمراً في تلك الأحدا،. لكن مأساة السلطنة النازفة المتجددة ذات الأصول الأفريقية التي تضم قبيلة المساليت إحدى أكبر قبائل دارفور، لم تتوقف عند ذلك الحد، فتجددت مرة أخرى محرقة منطقة أردمتا خلال الفترة من الرابع إلى السادس من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري مع دخول قوات "الدعم السريع" للفرقة العسكرية (15)، إذ اجتاحت مدينة الجنينة التي قدرت منظمة الهجرة الدولية ضحاياها بأكثر من 700 قتيل و400 آخرين بين جريح ومفقود بعد اشتباكات الطرفين.

جذور وتعايش

تعود جذور قبيلة المساليت لمجموعة قبائل جنوب الصحراء الكبرى وسط القارة الأفريقية في المنطقة المعروفة حالياً بدارفور، وكانت جزءاً من الممالك المتعاقبة على تلك المنطقة مثل سلطنة التنجور التي سقطت في القرن الـ17 الميلادي، وجزءاً من سلطنة الفور حتى الغزو البريطاني لدارفور ومقتل علي دينار في 1916.

يقدر عدد أفراد القبيلة بأكثر من 250 ألف نسمة حتى نهاية الثمانينيات ويتحدثون لغة المساليت النيلية الصحراوية الخاصة بها، المعروفة عندهم باسم "كامسرة"، وعرف عنهم تمسكهم بتعاليم الدين الإسلامي وأنهم قبائل تهتم بالزراعة وأيضاً برعي المواشي الأليفة.

نشأت السلطنة عندما قسم "سلطان دارفور" سليمان صولونج 1640-1670 دارفور إلى مجموعة حواكير أراضٍ لمختلف قبائل السلطنة بحسب ثقلها وقوتها ومكانتها، وكانت للمساليت "حاكورة كبيرة" خاصة بهم غرب السلطنة عرفت بـ"دار مساليت" أسسوا بعدها سلطنة بالاسم ذاته في الفترة ما بين 1884 - 1921.

شعوب عدة

وتقطن دار مساليت كذلك شعوب سلطنة القمر والأرنقا والفور والتاما والزغاوة والبرقد والعرب ببطونهم المختلفة مثل أولاد زيد وأولاد راشد والرزيقات والحوطية وآخرين، وأصبحت لهذه القبائل جذور تاريخية وأواصر اجتماعية توثقت لقرون بعيدة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بحسب أحمد إسحق يعقوب (أحمد مدني)، أحد زعماء المساليت وهو أستاذ جامعي ووزير سابق، فإن قبيلة المساليت صاحبة الأرض والإدارة كانت تضم كل المكونات القبلية المنتشرة في كل أجزاء الولاية، إلى جانب أخرى من وسط السودان وشماله مثل قبيلة الجعليين الذين وفدوا قبل الثورة المهدية وكلها تدير شؤونها وفقاً لنظام الإدارة الأهلية تحت إمرة قبيلة المساليت.

تعايش المساليت والعرب في الماضي ولكن ليس في الماضي البعيد حين قدم العرب إلى السلطنة في بداية ستينيات القرن الماضي وقليل جداً منهم قبل ذلك التاريخ، وكان التعايش بينهما سلمياً وحميمياً حتى 1988.

بداية الدماء

لكن وبحسب يعقوب، فإنه في عهد عمر البشير (الإنقاذ) خلال الفترة ما بين 1989 و2019 عمل على تسليح القبائل العربية وتزويدها بكل العتاد ضد القبائل الأفريقية تنفيذاً لما سمي "مشروعها الحضاري"، وكانت بينها القبائل العربية (الجنجويد) وقوات "الدعم السريع" بكل متحوراتها المختلفة تعمل لمشروعها الهادف إلى القضاء على قبيلة المساليت وغيرها من القبائل الأفريقية في دارفور للاستيلاء على الأرض بما حوت وإقامة دولتها على أنقاض القبائل الأفريقية.

للقبيلة تاريخ طويل في القتال منذ هزمت الحملة الفرنسية ثم الإيطالية، ففي خضم التنافس والسباق الاستعماري بين بريطانيا وفرنسا وإيطاليا على أفريقيا وحكم السودان وفي أعقاب معركة كرري في الثاني من سبتمبر (أيلول) 1898 واحتلال مدينة أم درمان تمكن السلطان علي دينار من الاستقلال بدارفور، وبقيام الحرب العالمية الأولى غزت بريطانيا دارفور وقتلت السلطان دينار في الـ22 من مايو 1916، وسعت فرنسا بعدها إلى غزو دارفور فوجدت نفسها في مواجهة سلطنة دار المساليت.

لحوم البشر

شاع لدى الفرنسيين الفارين من معارك غرب السودان أن أفراد قبيلة المساليت من آكلي لحوم البشر، لكنها ليست مجرد شائعة فحسب بل كانت جزءاً من تكتيك الحرب النفسية ضد الفرنسيين، وفق الزعيم القبلي يعقوب، إذ كانت من ضمن خطط المساليت إشاعة الرعب في نفوسهم، فكانوا كلما يأسرون جندياً أو ضابطاً من العدو ومعظمهم من مجندي غرب أفريقيا، يأتون به إلى قائدهم السلطان فيلمح لهم بأن رجال المساليت جوعى وعطشى، ويقول "إذهبوا وكلوهم، ثم يوهمونهم بطهيهم على النار كما الشاة المذبوحة، فراج الأمر وسط الجنود ودب فيهم الرعب والهلع وفروا هاربين بالفعل".

وخاض المساليت معركتين غير متكافئتين ضد الجيش الفرنسي الذي كان يسيطر على غرب أفريقيا هما "دورتي" و"كرنديق" اللتان أظهر خلالهما مقاتلو المساليت شجاعة بالغة تراجع معها الجيش الفرنسي لكن بعد استشهاد السلطان تاج الدين.

يرفض يعقوب أي حديث عن عروبة المساليت، بل يعتبرها أكذوبة يروج لها بعضهم ظناً منهم أن مثل تلك الأباطيل تجعل المساليت يميلون إلى العروبة ويقبلون التنازل عن أرضهم لمشاريع الاستيلاء على الأراضي ونهب الثروات، بينما سحناتهم تبرزهم للعيان زنوجاً أفارقة وما لا يعلمه المروجون لهذه الأباطيل أننا متصالحون مع ذواتنا كصناع لحضارة الإنسان منذ فجر تاريخ الإنسان.

إفساد التساكن

أفسد نظام البشير (الإنقاذ) هذا التساكن الوجداني والألفة الإنسانية تلك بمحاولته استمالة بعض المكونات، بخاصة العرب، والاستقواء بهم لإضعاف المساليت، أصحاب السلطنة الأصليين. وفي سعيها إلى إبادة الزرقة لم تتردد "عصابة الإنقاذيين" في الاستعانة بمكونات من خارج السلطنة، وفق الوزير السابق.

ويقول أحمد إسحق يعقوب إن "هذه المجموعات التي أتت أخيراً ليس لها كبير ولا يردعها وازع من دين أو خلق، أما دار أندوكا الآن فتحكمها سلطة الأمر الواقع وهي "العصابة المتمردة الدعم السريع بالتحالف مع الميليشيات العربية الإجرامية الأجنبية غير الشرعية التي استقدمت من غرب أفريقيا وسيعود المساليت لوطنهم دار أندوكا معززين مكرمين".

 

 

لم يكن تهديد سلطان دار مساليت سعد عبدالرحمن بحر الدين وتلويحه بفصل دار مساليت في مدينة الجنينة عن السودان وليد فراغ، فقد أيقظته حرب الخرطوم بين الجيش و"الدعم السريع".

أطماع الأرض

ووصف بحر الدين أحداث أردمتا الأخيرة بأنها "ارتكبت فيها جميع أشكال الجرائم ضد الإنسانية من إبادة جماعية وتطهير عرقي وتهجير قسري، متمثلة في القتل الممنهج والانتقائي على أساس العرق واللون، والحرق والنهب وتخريب المنازل، كما تم استهداف قادة المجتمع والأطفال الذكور، مما يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن للدعم السريع أغراضاً وأطماعاً هائلة في دار مساليت".

وحول أحداث أبريل في "دار أندوكا" وعقب اغتيال والي ولاية غرب دارفور المنتمي إلى المساليت خميس عبدالله أبكر، قال بيان لاتحاد شباب المساليت إن "تصفيات عرقية ممنهجة تمت، بلغ ضحاياها أكثر من 1300 قتيل و5000 جريح فضلاً عن الدمار والإتلاف الشامل لكل مؤسسات الولاية الحيوية ومقومات الحياة الضرورية للمواطن".

ولفت السلطان إلى أن هناك اتفاقاً دولياً يمنح دار مساليت الحق في ما تراه مناسباً عند انتهاء سريانه الذي حدث بالفعل، ملوحاً بإمكان انفصال السلطنة عن السودان كونها المنطقة الوحيدة التي انضمت طوعاً واختياراً بشعبها وثروتها.

التلويح بالانفصال

لوح سعد الدين بالرجوع عن "اتفاقية قلاني" التي وقعتها سلطنة دار مساليت في (1919- 1921) مع كل من فرنسا وبريطانيا العظمى والتي انضمت السلطنة بموجبها طوعاً إلى السودان عام 1922.

وتنص الاتفاقية التي جرى توقيعها بين سلطنة دار مساليت والحكومتين الإنجليزية والفرنسية في الـ 19 من سبتمبر 1919 على الانضمام إلى السودان الإنجليزي على أن يحتفظ السلطان بإدارته الأهلية في سلطنته وحكمه الذاتي وأن تكون لحكومة السودان إدارة غير مباشرة على سلطنة دار مساليت.

ونصت الاتفاقية أيضاً على أن يكون لسكان المنطقة حق الاختيار في بقائهم في إطار السودان أو الارتحال عنه أو الانضمام إليه من دون اعتراض من أي جهة.

 

 

وقال السلطان سعد بحر الدين في أول بيان له بعد خروجه من الجنينة عقب أحداث أبريل الماضي ووصوله إلى تشاد، "ما يجمعنا بالسودان هو أرض دار مساليت التي أصبحت جزءاً منه بموجب اتفاقية قلاني ونحن بصدد مراجعتها".

من أبرز وأشهر السلاطين الذين تعاقبوا على "دار أندوكا" هجام وأبكر وإسماعيل والسلطان تاج الدين والسلطان بحر الدين والسلطان عبدالرحمن والسلطان الحالي هو سعد عبدالرحمن بحر الدين.

وتقلد السلطان محمد بحر الدين الشهير بـ"أندوكا" زمام السلطنة بعد مقتل عمه السلطان تاج الدين إسماعيل في معركة دروتي ضد الغزو الفرنسي للسلطنة في التاسع من نوفمبر 1910 حين كان وقتها ولياً للعهد.

المزيد من متابعات