Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الإيطالية في الجزائر" تنقذ فن الأوبرا من التهريج

يوم حاول صاحب "حلاق إشبيلية" استخدام الاستشراق للوصول إلى تقارب بين الحضارات

 من تقديم معاصر لأوبرا "الإيطالية في الجزائر" (موقع الأوبرا)

ملخص

ولد روسيني عام 1792 في بيزارو ورحل عن عالمنا بعد ذلك بـ 76 عاماً، وهو إذ حقق نجاحاً كبيراً منذ عرض أعماله الأولى واستفاد من ذلك النجاح، لكنه في الوقت نفسه لم يكف عن تطوير عمله اختياراً وتنفيذاً، ومعظم أعمال روسيني لا يزال حتى اليوم من شوامخ الأوبرا العالمية.

خلال القرن الـ 19 لم يكن بقي في إيطاليا من الموسيقى الجديرة بهذا الاسم سوى تلك التي تكتب للأوبرا، إذا استثنينا بعض الأعمال الدينية ذات الأهمية الثانوية مقارنة بالموسيقى الدينية العظيمة التي كانت تكتب في القرن السابق عليه.

ومن هنا فإن جهود المبدعين الموسيقيين كلها راحت تنصب على الفن الأوبرالي الذي باتت له حظوة كبيرة لدى عامة الجمهور وخاصته، وراحت أصنافه وتوجهاته تتنوع.

وعلى رغم أن فن الأوبرا الإيطالية منذ بدايات ذلك القرن عرف كيف يحافظ على التقاليد التي كان بناها لنفسه خلال القرنين الـ 17 والـ 18، فإنه في الوقت نفسه عرف زوال الحدود التي كانت قائمة بكل صرامة، بين ما كان يسمى "أوبرا جادة" و "أوبرا هازلة" أو حتى تهريجية)، وهو، أي فن الأوبرا، كان في ذلك الحين بدأ يتعرض لتأثيرات جدية وعميقة جاءته من الغرب، ومن فرنسا.

 

روسيني على الخط

من هنا ولكي تستعيد الموسيقى الإيطالية فرادتها وتألقها، مستفيدة، على أي حال، من تلك التجديدات، كان عليها أن تنتج موسيقياً عبقرياً مؤسساً يتلاءم عمله مع "حداثة" القرن الـ 19، وكان جواكينو روسيني هو ذلك العبقري الذي إليه يعود، قبل أي شخص آخر، الفضل في نقل الموسيقى الأوبرالية الإيطالية من الكلاسيكية الخالصة إلى الرومانسية، من دون أن يؤدي ذلك إلى إحداث أية قطيعة حادة مع ذوق الجمهور، وهكذا عرف روسيني كيف يمزج في أعماله المتتالية والكثيرة حساً رومانسياً بأبعاد تقليدية كلاسيكية، ولعل العمل الذي أنجزه روسيني، ويبدو على بساطته اليوم الأكثر تعبيراً عن هذا المزج، هو أوبراه "الإيطالية في الجزائر" الذي يجمع بين مناخات استشراقية كانت سائدة في ذلك الحين، وبين نزعة رومانسية غرامية، إضافة إلى مقتطفات متنوعة من فنون "الأوبرا الهزلية" الخالصة، وتوق المتفرجين إلى أعمال تريهم كواليس القصور والمؤامرات الغرامية داخلها، في جو ميلودرامي تغريبي بالنسبة إليهم.

ومن المؤكد أن هذه الصفات كلها قد لا تبدو مهمة جداً لمن يعرف الأوبرا من خلال أعمال فاغنر الضخمة الأسطورية، لكنها تبدو مهمة في التأسيس للمرحلة التالية من مراحل مسار الأوبرا الإيطالية كما تجلت عند فيردي وبوتشيني لاحقاً، مع إشارة ضرورية هنا إلى أن كل عمل فيردي العظيم خلال النصف الثاني من القرن الـ 19، وحتى بدايات القرن الـ 20، إنما يبدو وليد أوبرا روسيني "وليام تل".

لكن تلك حكاية أخرى ليس هنا مكانها، والمكان هنا هو بالتحديد لتلك التي ستكون طوال فترة زمنية لافتة واحدة من أنجح أوبرات روسيني، "الإيطالية في الجزائر"، والتي تقول الحكاية إنه كتبها خلال ثلاثة أسابيع فقط من عام 1813 الذي كتب فيه، إضافة إليها، ثلاث أوبرات أخرى منها "تانكريدي".

وفي ذلك العام ولسبب لم يتضح تماماً بدا أن الفنان يسابق الزمن، والحال أن غزارة إنتاجه من الناحية الكمية في ذلك الحين، ولم تمنع ذلك الانتاج من أن يكون مميزاً.

عبقري في الـ 20

إذاً فلحن روسيني "الإيطالية في الجزائر"، وهو بعد شاب بالكاد تجاوز الـ 20 من عمره، والحال أن هذا العمل، إذ نجح حين قدم للمرة الأولى في البندقية يوم الـ 22 من مايو (أيار) 1813، هو الذي فتح الطريق واسعاً أمام روسيني، وأمن له حماية في عمله حتى حين كان الإخفاق من نصيب عمليه التاليين "أورليانو في تدمر"، و"التركي في إيطاليا"، ومن المؤكد أن فشل هذين العملين الأخيرين في مقابل نجاح "الإيطالية في الجزائر" يحيل بالنظر إلى أن الأوبرات الثلاثة تبدو متناغمة في التعاطي مع الموضوع الذي كان يشغل باله في ذلك الحين حتى من دون أن يكون وحده قاسماً مشتركا (أي تصوير "تلاقي الحضارات"، ولو بذلك الشكل الكاريكاتوري الذي تصوره الأعمال الثلاثة معاً، بل التجديد الموسيقي في "الإيطالية" والذي حاول روسيني تكراره في العملين التاليين، لكنه إذ بدا في المرة الأولى أصيلاً، بدا بعد ذلك مكرراً لا تجديد جدياً فيه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويمكننا أن نقول أيضاً إن جزءاً من نجاح "الإيطالية في الجزائر"، مهما يكن من أمر هنا، وربما يكمن في أن الجمهور الإيطالي كان يعرف "طبعة" أولى من هذا العمل، إذ كان سبق للموسيقي لويجي موسكا أن لحن أوبرا انطلاقاً من النص نفسه الذي كتبه آنجلو آنيلي، ليُقدم في ميلانو قبل أعوام من تقديم عمل روسيني، وصحيح أن العمل القديم لم يحظ بإعجاب النقاد والجمهور بموسيقاه، لكنه ككل أبقى ذكرى طيبة خدمت روسيني لاحقاً، مما مكن من اكتشاف روعة موسيقاه.

من إسطنبول إلى الجزائر

ولقد لحن روسيني "الإيطالية" على أية حال بدوره، انطلاقاً من نص مسرحي كان معروفاً، وهو نص بسيط يصل إلى حدود السذاجة من ناحية الفكرة، إذ ينطلق من حكاية الحسناء روزيلانا التي كانت المحظية المفضلة لدى السلطان سليمان الثاني (القانوني)، وهي حكاية حقيقية، لينقل الأحداث إلى جزائر بدايات القرن الـ 19، أيام حكم والٍ تركي هو مصطفى باي الجزائر، وهذا الوالي هو الذي حل في العمل الأوبرالي محل السلطان العثماني. ومنذ البداية يطالعنا مصطفى باي وقد بدأ يسأم زوجته الخاصة ألفيرا فيكلف القبطان علي، زعيم القراصنة، بأن يأتيه بامرأة أخرى يريدها هذه المرة إيطالية، وتشاء الصدف أن تصل إلى شاطئ الجزائر بفعل العاصفة وفي الوقت نفسه، سفينة على متنها الحسناء الإيطالية إيزابيلا التي تدور بحثاً عن خطيبها ليندور الذي كان القراصنة قد خطفوه، يرافقها الفارس تاديو، الأمين والعاشق لها في الوقت نفسه. ولما كان كل عمل ميلودرامي يقوم على الصدف، فها هي الصدفة تكشف لنا أن ليندور نفسه موجود في "قصر باي" كعبد. وهكذا، إذ تقدم إيزابيلا لمصطفى تزعم أنها تشجعه على مغازلتها وقد آلت على نفسها أن تخدعه لتظفر بما تريد.

وإذ يستكين باي إليها تنظم إيزابيلا حفلة صاخبة مليئة بالتهريج والأكل، وتعطي مصطفى خلالها لقب "بابا تاتشي" شارحة له أن هذا اللقب الشريف يطلق في بلادها على الأشخاص الذين يحبون الحياة ويحبون كذلك الشرب والنساء في الوقت نفسه، وإذ يطرب مصطفى للقب يروح آكلاً وشارباً بكل شراهة معتقداً أن غرقه في هذا إنما هو تشريف للقبه الجديد.

وهكذا، إذ يستبد النهم بالسلطان، يتوجه ليندور وإيزابيلا ورفاقهما إلى السفينة التي تنقلهم إلى بلادهم، وحين يفيق مصطفى من هذا كله ويدرك الخديعة يستبد به الغضب الشديد، ويروح ذارعاً قصره كالمجنون، لكنه شيئاً فشيئاً يعود لهدوئه، ولا يكون منه إلا أن يعود لامرأته ألفيرا، وقد استنتج، وها هو يعلن ذلك غناء، أن النساء الإيطاليات لا يصلحن له، وأن المرأة الحقيقية التي تصلح له، إنما هي زوجته الطيبة والوفية ألفيرا التي تستقبله بكل حنان فاتحة ذراعيها غافرة له ما فعل.

أوبرا مرحة بدلاً من التهريجية

وفي تلحينه هذه الأوبرا التي راحت تبعد موسيقى روسيني عن الهزل الخالص والإيقاعي الذي كان يهيمن على بعض أعماله السابقة عليها، بدأ الفنان الشاب يسلك طريق الأوبرا المرحة الذي سيطبع أعماله مذاك، خالقاً ما سمي لاحقاً بـ "الأسلوب الروسيني الخالص" الذي يقوم على دمج الميلوديات العاطفية في حيوية إيقاعية دينامية تقوم على التركيز على الجملة الموسيقية نفسها مؤداة غالباً عبر استخدام أكبر عدد ممكن من الآلات الموسيقية، وغالباً الأوركسترا كلها.

ويذكر تاريخ الموسيقى أن بعض أجواء هذا العمل اكتسب على الفور شعبية كبيرة، ليس في إيطاليا وحدها بل في طول أوروبا وعرضها (إذ خلال أشهر من التقديم الأول للعمل، كان الأوروبيون يغنون معاً ذلك الثلاثي الرائع الذي يبرز بخاصة خلال الفصل الثاني ومن حول لعبة البابا تاتشي).

ولد روسيني عام 1792 في بيزارو ورحل عن عالمنا بعد ذلك بـ 76 عاماً، وهو إذ حقق نجاحاً كبيراً منذ عرض أعماله الأولى استفاد من ذلك النجاح، لكنه في الوقت نفسه لم يكف عن تطوير عمله اختياراً وتنفيذاً، ومعظم أعمال روسيني لا يزال حتى اليوم من شوامخ الأوبرا العالمية، من "حلاق إشبيليا" التي تعتبر من أعظم أعماله إلى "سندريلا"، ومن "سميراميس" و"تانكريدي" إلى "ويليام تل" بالطبع.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة